للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وداعيتهم المحبوب، فلم يجدوا خيرًا من عبد الله النديم, فألحوا عليه حتى شايعهم, فكان معهم كما أردوا وزيادة، وطلب منه عرابي أن يغير اسم جريدته١ ويسميها "الطائف" تيمنًا باسم طائف الحجاز، وتفاؤلًا بأنها تطوف المسكونة كما جابتها جوائب الشدياق.

وابتدأ الطائف قويةً عنيفة اللهجة, تنقد إسماعيل نقدًا مرًّا، وتشرح للناس كيف أسرف، وكيف استولى على الأراضي، وتصوّر بؤس الفلاحين في السخرة -أيام إسماعيل٢, والعذاب المهين الذي يصبه الرؤساء على الناس, ويلهبون ظهورهم بالسياط في سبيل الجباية ودفع الضرائب، ويضيف إلى كل ذلك ما رآه بنفسه من مشاهد دامية، وقلوب قاسية, ورؤساء يزدادون غلظةً طمعًا في الترقية، وما لجأ عبد الله نديم إلى كل هذه الموضوعات إلّا ليسوغ طلب الثور الحكم النيابي ضمانًا للعدالة، وجبًّا للاستبداد وعهوده؛ وطلب الثوار من وزارة الداخلية أن تعتمد "الطائف" لسانهم المعبر فوافقت على ذلك، وصارت "الطائف" مقياسًا لتطور الثورة، فتارةً تذم الأروبيين وتحمل عليهم حملاتٍ شعواء لتدخلهم في شئون البلاد، وآونةً تصب نقمتها على توفيق؛ لأنه مَكَّنَ لهم في مصر، وغَضَّ الطرف عن ازدياد نفوذهم, وكان النديم في "الطائف" يدلس في أخبار الثورة والقتال تهدئةً للناس, فيصور الهزيمة نصرًا حتى تمت الهزيمة، وأسقط في يد الثوار.

ولم يكن "الطائف" وحده الذي يدعو إلى الثورة ويحرض عليها، ويشجع الناس على التطوع والتبرع، بل خطبه المؤثرة وحماسته المتدفقة، وقدرته على تصنيف الكلام، ومخاطبة كل طائفة بالأسلوب الذي تفهمه، من أشد العوامل على إشعال نار الثورة، وازدياد لهيبها٣.


١ وكان آخر عدد صدر من التنكيت في ٢٣ ذي القعدة سنة ١٢٩٨هـ, وصدر منها ثمانية عشر عددًا.
٢ لأن من حسنات رياض التي تذكر له أنه ألغى السخرة في أوائل عهد توفيق؛ كإقامة الجسور على النيل أيام الفيضان، وحفر الترع من غير أجر، وكان كثير من الملاك يسخرون الفلاحين في أرضهم بدون أجرة, فمنعهم رياض من ذلك منعًا باتًّا, فأثار حفيظتهم؛ ولعل ذلك ما جعل محمد عبده ينظر إليه دائمًا بأنه المستبد العادل الذي يجب أن يحكم البلاد خمش عشرة سنة حتى يصلح شئونها.
٣ كان يخطب في كل مجتمع: في الأزهر وطلبته, والجيش وجنوده، وفي حفلات الأفراح, فما يكون مجتمع إلّا ويطمع أن يكون فيه عبد الله نديم خطيبًا هو وجماعة من تلاميذه.

<<  <  ج: ص:  >  >>