للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عند دعوى السياحة -مثلًا- وأبيِّضُهَا في بلد, وأحمِّرُهَا في قرية، وأسوِّدُها في عزبة, وتغيرت الأسماء التي انتحلتها، والناس في عجب من أمره, فالقدرة مقدرة النديم، ولكنه يختلف عنه في الشكل والصوت واللهجة، فيقولون: سبحان الله جل من لا شبيه له".

وقد أتيح له من الفراغ وهو في اختفائه هذا ما مكنه مواصلة دراسته، وشغل نفسه بالتأليف وقرض الشعر، وقد ألَّف في كثير من العلوم، وفي هذا يقول من رسالةٍ لصديق له: "تارةً أشتغل بكتابة فصول في علم الأصول، وأجمع عقائد أهل السنة بما تعظم به لله المنة، وحينًا أشتغل بنظم فرائد في صورة قصائد، ووقتًا أكتب رسائل مؤلفة في فنون مختلفة، وآونةً أكتب في التصوف والسلوك وسير الأخبار والملوك، وزمانًا أكتب في العادات والأخلاق وجغرافية الآفاق، ومرةً أطوف الأكوان على سفينة تاريخ الزمان، ويومًا اشتغل بشرح أنواع البديع في مدح الشفيع, وقد تَمَّ لي الآن عشرون مؤلفًا بين صغير وكبير، فانظر إلى آثار رحمة الله اللطيف الخبير، كيف يجعل أيام المحنة وسيلة المنحة والمنة، أتراني كنت أكتب هذه العلوم في ذلك الوقت المعلوم، وقد كنت أشغل من مرضعة اثنين، وفي حجرها ثالث، وعلى كتفها رابع، وأتعب من مربي عشرة وليس له تابع".


= ولكن مرت عليه من ذلك أيام حالكة السواد, مليئةً بالمصائب، فقد اختفى مرةً في قاعةٍ مظلمةٍ لا يتوصل إليها إلّا من سرداب طويل مظلم، ويرشح الماء من أرضها لقربها من ترعة, ولا يتمكن من القراءة والكتابة إلّا على مصباحٍ صغيرٍ به ذبالة تملأ الحجرة دخانًا، وقد مكث بهذا السرادب ستة أشهر, وكان إذا أراد الكتابة صنع المداد من سناخ السراج مع قليلٍ من قرظ السنط، ويتخذ أقلامه من الحجناء, كل هذا وهو صابر لا يشكو ولا يتململ، وكان في أول مرة شديد الحنين لأمه وأبيه وأخيه, لا يعرف ما صاروا إليه, فلما خف عنه الطلب، ويئست الحكومة من العثور عليه، تمكَّن من الاتصال بأهله اتصالًا منتظمًا, وكان حريصًا على ما خلفه في بيته بالإسكندرية من كتب ومؤلفات، ولكنها ضاعت بالسكة الحديدية حين وضعها أبوه في صناديق وهو مهاجر من الثغر بعد ضربه بالمدافع الإنجليزية، فلما اشتد الزحام بالقطار عمد رجال السكة الحديدة إلى التخلص من البضائع ليفسحوا المجال للناس؛ فألقوا بهذه الصناديق المملوءة كتبًا وهم لا يعلمون قيمتها عند عبد الله النديم.

<<  <  ج: ص:  >  >>