للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وانتهى به المطاف إلى بلدة "الجميزة" فعرفه عمدتها وكتم أمره، ولكن أحد جواسيس الحكومة عرفه؛ فوشى به طعمًا في المكافأة١، وأطبق عليه رجال الشرطة، ولم يستطع النجاة بحيله المعهوده، فسلَّم نفسه٢ ومن حسن حظِّه لم يفحصوا عن أوراقه؛ إذ كان في بعضها هجاء مقذع لتوفيق، ولو تنبهوا لذلك لكان أمره غير ما عرفنا، ثم أرسل إلى طنطا للتحقيق معه، وكان المحقق قاسم بك أمين؛ فأكرمه وواساه وأمدَّه بالمال من عنده, ثم صدر أمر توفيق بالعفو عنه وإبعاده عن مصر، فاختار "يافا" دار إقامة، وطوَّف ما شاء له هواه في فلسطين, وعرف كثيرًا من بقاعها٢.

ولما مات توفيق وتولى عباس عفا عنه، وسمح له بالعودة إلى مصر؛ فرجع إليها سنة ١٨٩٢ وأنشأ جريدة "الأستاذ" فكانت صحفةً مجيدة في تاريخ الجهاد القوميّ؛ لأن علاقة الخديو عباس بالإنجليز كانت سيئة أول الأمر، وكان يجمع حوله الوطنيين وكبار المفكرين كما علمت آنفًا، وأخذ النديم يناصر عباسًا بكل ما أوتي من قوة، وكان في استطاعته أن يجنح للسلم ويهادن الإنجليز، ويُعيَّنَ في أعظم المناصب بالمعارف أو الأزهر، وهو كفء أديب, ولكن أبت عليه نفسه العفة، ووطنيته المتقدة أن يلين لعدوه مهما كانت الأيام قد حاربته في الماضي، ولقي إبَّان اختفائه من عنتٍ وآلام.

شهر قلمه في وجه الإنجليز غير مبالٍ بهم وبسلطانهم القويّ بوادي النيل، فآثار بذلك حفيظتهم, وخافوا إن تركوه وشأنه أن يتسع الخرق، ويفسد الأمر


١ كان اختفاؤه في سنة ١٢٩٩هـ, والقبض عليه في سنة ١٣٠٩هـ.
٢ وكان في أول أمره يرتدي الثياب الإفرنجية المعلومة,؛ لما ظهر بعد الاختفاء لبس الجبة والقباء واعتمَّ بعمامةٍ خضراء إشارةً إلى الشرف، ولكن كثيرًا من ذوي الخبرة ينكرون هذا النسب، ولعل هذا الأدعاء لشعوره بضعة نسبه؛ فأراد أن يستره بهذه الصلة.
٣ وقد ودع قراءه في آخر عدد صدر من مجلة الأستاذ في ١٣ من يونيه سنة ١٨٩٣ بكلمة مؤثرة قال فيها: ما خلقت الرجال إلّا لمسايرة الأهوال ومصادمة النوائب؛ والعاقل يلتذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظمة والجلال، وإن كان المبدأ صعوبة وكدرًا في أعين الواقفين عند الظواهر, وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلًا:
أودعكم والله ويعلم أنني ... أحب لقاكم والخلود إليكم
وما عن قلي كان الرحيل وإنما ... دواعٍ تبدت فالسلام عليكم

<<  <  ج: ص:  >  >>