للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن مظاهر هذه الإنسانية أنه بعد أن أطلق الجند سراحه عنوة من سجن قصر النيل الذي حسبه فيه الجراكسة، وهموا بالفتك بهم، ولكن عرابي حمى هؤلاء الذين آذوه وسجنوه ولولاه لكانت مذبحة.

ومن سمات شخصية عرابي صفاته الجسمية، فقد كان طويل القامة، عظيم الهامة، ثقيل الأطراف، بطيء الحركة نوعًا، كأنه يمثل تلك القوة العظيمة التي اشتهر بها الفلاح العامل١، وكان شديد البنية متين التركيب، تلوح على وجهه أمارات الشهامة العسكرية، وسمات الهيبة والوقار، والجد مع القوة والبأس.

كان عرابي كثير الاهتمام بالتاريخ، قرأ سيرة نابليون والثورة الفرنسية كما ذكرنا آنفًا، ويوجه إليها اهتمامًا كبيرًا، وقرأ قدرًا كافيًا من تواريخ الدول, وعظماء الأمم في الشرق والغرب، كما كان يقرأ كثيرًا في نهج البلاغة, ومنه استمد قدرته الخطابية والتعبيرية، ويقول بلنت عن آراء عرابي: "إنها تعتمد على العلم بالتاريخ، وعلى تقاليد الأفكار العربية الحرة الموروثة من أيام حرية الإسلام".

كما كان يعرف كثيرًا عن إيطاليا وجهادها في سبيل وحدتها واستقلالها، ويعجب أشد الإعجاب بـ "غريبالدي"، ويمكن أن نقول: إن ثقافة عرابي كانت دينية أدبية تاريخية في حدود مطالعاته العربية.

لقد نال قدرًا ضئيلًا من الثقافة، ولكنها خصوبة ذهنه أحالت هذه البذور القليلة أشجارًا ضخمة مثمرة، وأتت أكلها وطنيةً دافقةً، وفهمًا للحرية والديمقراطية والمساواة، وتقديرًا للحقوق العامة وقواعد الإدارة والنظام٢.

يقول العقاد٣: "ويلوح لنا أن الرجل مخلوق من طينة العبقرية التي يمتحن صاحبها بشقوتها, كما يمتحن بنعمتها وفضلها، على أن العلامة التي لا تخطئ من علامات العبقرية هي الخصوبة الذهنية، وهي أن يثمر الذهن محصولًا وافرًا من بذور قليلة، وقد كانت الدروس التي تلقها عرابي في صباه قسطًا مشتركًا بينه وبين كل صبيٍّ من صبيان القرى, حضر مبادئ القراءة والحساب وما إليها في الكتاتيب وأروقة الأزهر المعدة للمبتدئين، ولكننا نقرأ أقواله في الحكم النيابي والمبادئ الديمقراطية والحقوق العامة وقواعد الإدارة والنظام, فيتمثل أمامنا حظٌّ وافرٌ من الفهم والمعرفة, لا يتهيأ للكثيرين ممن أحاطوا بالمعلومات المستفيضة في هذه الشئون.


١ التاريخ السري ص ١٠٤، Broodely: How we Defended. pp. ٦٢.
٢ بلنت: ص١٢٩.
٣ العقاد: ١١ يوليو ص١٠٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>