للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أثر العرب في الحضارة الأوربية وآدابها وغنائها وموسيقاها، وبحسبك أن تعلم أن الفلسفة الإسلامية ظلت تدرس في جامعات أوربا حتى سنة ١٦٥٠, وأن أرسطو لم يكن يفهم إلّا بشروح ابن رشد، وأن طب ابن سينا كان غاية كل مشتغل بالطب في أوربا أمدًا طويلًا، وأن مئات الكلمات العربية التي تنبيء عن الحضارة والعلم قد دخلت اللغات الأوربية واستعجمت؛ من مثل: قيثارة, وقطران, وأميرال, وشراب, وزعفران، وكافور, وقرمز, وصك, ورزمة، وإكسير، وكيمياء، وجبر، وساقية, وما شاكل ذلك، وهم الذين علموهم صناعة الحرير والغلائل الموشاة، وصناعة السلاح والخز المذهب, والفسيفساء والبلور والورق والأصباغ والأدهان، والمعادن، وعلم الجبر والحساب بأرقامه١.

واتصل الغرب مرةً أخرى بالشرق إبَّان الحروب الصليبية التي شنها متعصبة المسيحيين, حينما أَنِسُوا في عرب الأندلس ضعفًا، وظلَّت نحو قرنين وطوفان جنود أوروبا يتكسر على صفاة حماة الإسلام، ويرتد، ثم يعود أشد مما كان بأسًا، فتقابله صدمات تخفف من غلوائه، وهكذا حتى خمد، ولكن خلف هذا الاتصال الطويل آثارًا بعيدة الغور في كل من المغاربة والمشارقة، أما المغاربة فدهشوا من حضارة العرب في بلادهم, ووجدوا أشياء كثيرة لا عهد لهم بها، فقلدوا المشارقة في لبس الدروع الخفيفة المنسوجة, وفي استخدام الموسيقى العسكرية؛ واصطنعوا السيوف والرماح، وأخذوا عنهم فن بناء الحصون وحفر الخنادق، وإقامة الاستحكمات, واستعملوا النار لنقل أخبارهم في الليل, والحمام الزاجل بالنهار، وأخذوا كثيرًا من أصول الهندسة وتأسيس المنازل بالطنافس والنماذج والسجاد والأواني الخزفية وغيرها، وإن الفلسفة اليونانية التي يعتز بها الغرب، وعليها بنى حضارته وثقافته، إنما وصلت إليه عن طريق العرب، فهم الذين حفظوها وشرحوها وعلقوا عليها, وأضافوا إليها فلسفتهم وآراءهم, فلما استيقظت أوربا وجدت الطريق ممهدًا فسارت في المدنية بخطى واسعة.


١ راجع: تراث الإسلامن, وراجع كذلك غزوات العرب في أوربا للأمير شكيب أرسلان, وأثر الشرق في الغرب, ترجمة الدكتور فؤاد حسنين، وكتابنا الفتوة عند العرب، الفصل الخاص بالموازنة بين الفتوة العربية والفروسية الغربية.

<<  <  ج: ص:  >  >>