وكانت هذه الكتب بواكير الدراسات الأدبية التي نحا فيها الكتاب العرب منحى المستشرقين وتأثروا بهم في منهج أبحاثهم، ولكن لم تر الجامعة المصرية القديمة، ولا جامعة القاهرة عقب إنشائها غناءً عن المستشرقين، فأخذت تنتدبهم للقيام بالتدريس فيها، ونشر طرقهم السديدة في البحث بين طلاب الأدب، ولقد ظهر هذا الأثر جليًّا واضحًا في الأبحاث التي تلت ذلك، وما زلنا سائرين في هذا الطريق، نعتمد على أنفسنا مرة، ونستأنس بآرائهم مرةً، والبحوث الأدبية تكثر وتتنوع, ويظهر عليها أثر التحقيق العلمي السليم.
ولعلك تسأل: أترى المستشرقين أعلم منا بلغاتنا وبأصول عقائدنا وفرقنا الدينية، وهل هم معصومون من التعصب والخطأ؟!
في الحق إن كثيرًا من المستشرقين على حظٍّ كبير من العلم والمعرفة، ولكن الأمر الذي يهمنا نحن ليس العلم، وإنما المنهج وطريقة الاستقراء والاستنباط والدرس وتكوين الحكم بعد الموازنات، ومراجعة الأصول والمخطوطات, وكل ما قيل حول الموضوع، ولقد ذكرت لك آنفًا أن مكتبات أوربا تحوي مائتين وخمسين ألف كتاب عربيٍّ بين مخطوط ومطبوع، وهذه الثروة الهائلة حرية أن تتيح لمن يعيش معها, وقد كلفت له أسباب البحث الأخرى أن يتسع اطلاعه ويعمق نظره، ويقرب حكمه من الصواب، فلا بدع إذا كان بعض المستشرقين حجة في أبحاثهم التي تصدوا لها.
أجل! إننا لا نبرئ كثيرًا منهم من التعصب، ولا سيما في المسائل التي تتعلق بالدين والعقيدة والجنس، وهيهات أن يكتب أحد عن الإسلام أو عن العرب دون أن ينزع في كتاباته إلى ما ينم عن تعصبه, وقليل منهم مَن استطاع أن يتجرد من عواطفه ونزعاته حين البحث؛ مثل:"السير توماس أرنولد" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام".