وكان كل شيء في مصر, وكل البعثات من طبيةٍ وهندسيةٍ وصناعيةٍ وغيرها, ترمي إلى خدمة الجيش، ورجال الجيش, ومع ذلك, فقد كانت هذه النهضة الحربية أساسًا للنهضة العلمية الأدبية التي ظهرت في عهد إسماعيل، فالمدارس التي فتحت في عهد محمد علي، والكتب التي ترجمت، والبعثات التي تزودت من علوم أوربا، واطلعت على حضارتها، أسهمت كلها في النهضة التالية، وساعدت على نجاحها، فلم يكن كبار المفكرين في عهد إسماعيل إلّا شبّانًا في عهد محمد علي، ولقد أفادوا مصر فيما بعد أكبر فائدة, وفي طليعتهم رفاعة الطهطاوي، ومحمد علي البقلي، وإسماعيل الفلكي، ومحمود الفلكي، وعلي مبارك.
وتعلَّم هؤلاء في عصر محمد علي, وقادوا الحركة الفكرية في عهد إسماعيل، ففضل هذا العصر على النهضة الأدبية من هذه الناحية أَجَلّ من أن ينكر، على الرغم من أن اللغة الرسمية للدولة كانت التركية، ولكن اللغة العربية أخذت منذ ذلك الحين تنمو وتشتد, حتى استطاعت بعد زمنٍ وجيزٍ أن تقضي على التركية في الديوان، ثم تصير لغة الأدب الحيِّ الذي ينبض بالقوة, ويعبر عن الحضارة الحديثة؛ لكثرة ما ترجم إليها من آثار الغرب، وكثرة ما أحيا من تراث العرب، والفضل في ذلك لهذه الأسس التي بنيت عليها نهضتنا الحديثة.
وعلى الرغم من مظاهر النهضة المختلفة، فإن محمد علي لم يكن يقصد نفع مصر والمصريين، وإنما كان يريد استغلالهم على أسوأ طريق؛ فحكمهم بالقهر، وأطاح بالرءوس الكبيرة في البلاد، وجمع كل عقود التمليك، ووزع الأرض الزراعية توزيعًا جديدًا، كان لأقاربه وأنصاره من غير المصريين منها النصيب الأكبر، ومن هنا جاء الإقطاع الحديث بشروره وآثامه.
كما أنه جعل مصر مزرعةً كبرى يجني وحده خيراتها، وينفق من تلك الخيرات على الجيش الذي يعده لتمكين ملكه وتثبيت عرشه، وتوسيع نفوذه.
وقد أخذ ما كان للمساجد من أموال، وأخذ من أوقاف الأزهر ما لو بقي له اليوم لكان ذا شأن كبير في إصلاحه, والنهوض به.