للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيها آثارًا لا تزال ناطقة, ولا سماء صاخبة متقلبة مزمجرة هادرة، ولا جبال يكسوها الثلج فيخطف البصر ويظهر جبروت الطبيعة؛ فلا بدع إذا جاء الخيال الساميّ صورة من هذه الصحراء، وعلى العكس من ذلك البيئة التي عاش فيها الآريون قبل أن يدخلوا إلى أوربان وهي شمال بلاد الهند، فإن الطبيعة فيها قاسية قسوة عارمة، والمناظر متنوعة، والغابات كثيفة دكناء, والجو متلقب لا يستقر على حال, فالرعود القاصفة، والريح العاصفة, والمطر الهطال, والبروق الخطافة, والسحب تتراكم في السماء كأنها جيوش يدفع بعضها بعضًا, وقد بثت هذه الطبيعة في نفس الإنسان الذي عاش في أحضانها شيئًا من الخشية والرعب وألهمته الأساطير والخرافات، فكان ذلك بدء القصة، وقد اختزن العقل الأوربي من صور هذه الحياة الأولى شيئًا غير قليل، وكان له بهذا الخيال المجنح والعقلية الخصبة، والنظرة الفاحصة، وهذه المواهب هي القصة.

فالقصة في نظرهم الصورة المثلى التي يتجلى فيها الخيال وتظهر العبقرية، وخلوّ الأدب العربي منها فيما يزعمون دليل على ضعف العقلية العربية، وقد جاراهم في هذا بعض أدبائنا غير مدركين ما في هذه الدعوى من خداعٍ وأخطاء، استمع إلى الأستاذ أحمد أمين وكيف يجعل قلمه صدًى لهذه الفكرة الخاطئة فيقول عن العربي: "إن خياله محدود وغير متنوع، وقلما يرسم له خياله عيشة خيرًا من عيشته، وحياة خيرًا من حياته يسعى وراءها، لذلك لم يعرف المثل الأعلى، لأنه وليد الخيال، ولم يضع له في لغته لفظة واحدة دالة عليه، ولم يشر إليه فيما نعرف من قوله، قلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يستقي منه معنًى جديدًا, ولكنه في دائرته الضيقة استطاع أن يذهب كل مذهب": ويقول في موضوع آخر: "والمزاج العصبي يستتبع عادة الذكاء، وفي الحق إن العربي ذكي يظهر ذكاؤه في لغته, فكثيرًا ما يعتمد على اللمحة الدالة، والإشارة البعيدة، كما يظهر في حضور بديهته، فما هو إلّا أن يفجأ بالأمر فيفجؤك بالجواب الحسن، ولكن ليس ذكاؤه من النوع الخالق المبتكر، فهو يقلب المعنى

<<  <  ج: ص:  >  >>