ثم جاءت الحرب العالمية الأولى، واصطلى العالم بسعيرها أربع سنوات كاملة، وما أن وضعت الحرب أوزارها، واستراح الناس من ويلاتها، حتى هبت الشعوب المغلوبة تطالب بحقوقها في ثورات عنيفة بمصر وأيرلندا وغيرهما؛ وخلفت الحرب آثارًا كثيرة بمصر تتمثل في الغلاء الذي يرزح تحت وطأته جمهرة بنيها، وفي شدة الإقبال على المدينة الغربية بخيرها وشرها، وفي نضج الفكرة القومية وتحديد أهداف البلاد.. إلى آخر ما هنالك من آثار كان لها في الأدب شأن عظيم.
ومن العسير علينا أن نلم في هذا الجزء بكل ألوان الأدب شعرًا ونثرًا، بجميع البلاد العربية، فالدراسة المنتجة هي التي تتناول موضوعًا خاصًّا، في بلد بعينه، وتوفيه حقه من البحث، وقد آثرت أن أقصر هذا الجزء على:"الشعر بمصر بعد البارودي".
وموضوع الشعر بمصر ليس موضوعًا هينًا، فمنذ أن ظهر البارودي بزعامته القوية، ومصر توقد الطريق في هذا الميدان، ويتلقف الراية شاعر بعد شاعر، ويتباين تأثرهم بالثقافة الغربية قوة وضعفًا، كما يتباين حظهم في تقليد الأدب العربي القديم؛ ولذلك تعددت مدارسهم، وتنوعت موضوعاتهم، وغزر نتائجهم. وصار الدارس للشعر في العصر الحديث لا يجد أمامه مندوحة من العكوف على بيئة خاصة، ويتعرف فيها على التيارات المختلفة التي أثرت في الشعر وعملت على تعدد مذاهبه وألوانه، وبذلك يكون قد أدى بعض ما يجب عليه نحو عصره وبيئته.
وإذا كنت قد اكتفيت بالكلام على الشعر في مصر بعد البارودي. فليس ذلك إهمالًا أو إغفالًا لشعراء العربية في الأقطار الشقيقة، وقد نبغ منهم فحول زينوا عصرهم وخلدوا أسماءهم، ورفعوا ذكر بلادهم من أمثال: الزهاوي، والرصافي، والشبيني بالعراق، وبشارة الخوري، وشبلي الملاط، وإلياس أبي شبكة، وأنور العطار، وعمر أبي ريشة، وسعيد عقل بسوريا ولبنان.
ولكن التعرض لشعراء العربية في مخلتف بيئاتهم إن تيسر لنا أداؤه فلن يكون ذلك دفعة واحدة وفي كتاب واحد، وإلا جاء ناقصًا مبتورًا لا قيمة له، ولا