مستوى الجمهور الذي يكتب له، ورغباته اليومية؛ ولهذا نزل الكاتب من عليائه إلى المستوى الذي يتطلبه الجمهور، في أسلوبه وموضوعه، وطريقة عرضه.
وثمة شيء آخر هو أن الكاتب لم يكن حرًّا فيما يختار من موضوعات؛ لأن الصحف سياسية قبل كل شيء تهتم بالسياسة الخارجية والداخلية، وهي تمثل لونًا معينًا من هذه السياسة، وقد كان بمصر حينذاك أحزاب مختلفة، حزب الخديو، وحزب الإنجليز، وحزب الوطنيين، ولكن حزب ألسنة من الكتاب والصحف تدافع عن سياسته، وتحصي على الآخرين أخطاءهم، وتفند أقوالهم، ولذلك كله اضطر الكتاب إلى خوض غمار المعارك الحزبية والسياسية، ولم يعد للأدب الخالص، أو الموضوع الذي تشبعت به نفس الكاتب وامتلأت مشاعره مجال في الصحف إلا قليل. وقد عاد كل هذا على الأدب بالضرر، فكسدت سوقه، وخمدت قرائح الكتاب، وتعطلت أقلامهم الرفيعة، وسنعود إلى الحديث في توضيح هذا بعد قليل إن شاء الله.
أما ما قصده "كرومر" من إعداد طائفة من الشبان المصريين لشغل بعض وظائف الدولة غير ذات الخطر، فقد نجح فيه أيما نجاح واستطاع أن يخرج ألات صماء، ليس عندهم شيء من الجرأة وحرية الرأي، والقدرة على الابتكار، ثقفوا ثقافة محدودة، فبعضهم اكتفى بالتعليم الابتدائي وآخرون زادوا قليلًا فنالوا الشهادة الثانوية، وقد ملئت أدمغتهم بمعلومات كثيرة غير مفيدة في حياتهم الفعلية، وكان الغرض الأول أن يظلوا مرءوسين للإنجليز الذين غصت بهم مصالح الدولة، لا يتطلع أحدهم إلى منصب كبير، وليس في مكنته أن يشغل هذا المنصب الكبير إذا تطلعت نفسه إلى ذلك؛ لأنه لم يعد الإعداد الواجب لشغل مثل هذا المنصب.
ومما يؤسف له أن سياسة "كرومر ودانلوب" في التعليم قد ظلت أمدًا طويلًا -بعد أن نالت مصر حريتها، وتخلصت من الإنجليز في التعليم- وهي السياسة المتبعة في مصر، وصار المنصب الحكومي هو غاية ما يتطلع إليه الشباب