الدواوين من سوء إعدادهم للعمل فيها، ويعرضون أنفسهم على أصحاب الأعمال الحرة، فلا يكادون يجربونهم حتى يزهدوا فيهم ويعرضوا أشد الإعراض عن استخدام زملائهم؛ لأنهم لم يعدوا للأعمال الحرة إعدادًا صالحًا١.
لقد كان هَمُّ الإنجليز الأول من هذه السياسة التعليمية الفاسدة أن يخرجوا طبقة من الموظفين الحكوميين، لم يتعمقوا في الدراسة، ولا يصلحون للقيادة، بل يكونون آلات في أيدي رؤسائهم من الإنجليز وأتباعهم. كان لهذا ولا ريب تأثير كبير في الأدب؛ لأنه صبغ حياة الموظفين بصبغة مادية رخيصة، ألا وهي السعي وراء الوظيفة، لا يبغون بها بدلًا، ولا يستطيعون عنها حولًا، ولا يعرفون كيف يفكرون في سواها لاكتساب العيش إذا تطردوا منها، كأنهم السمكة جف من حولها الماء، أو الطيور حرمت الهواء.
وشعب هذه حال المثقفين فيه لا ينظر إلى الأدب إلا بمنظار المادة، ولا يرى فيه ما يراه الغربيون من أنه وسيلة للتعبير عن مشاعر الأديب أيًّا كانت هذه المشاعر والأحاسيس التي تفيض بها القلوب، ووجداناتهم. ولذلك انصرف الأدباء إلى تملق الرؤساء، وأصحاب الحول والطول، يمدحونهم أحياء ويرثونهم أمواتًا وقلما ركن أحدهم إلى نفسه يسمع هتافها الخالص، ونداءها الحر، فيسجله شعرًا صادرًا من أعماق فؤاده، وطيات نفسه، ويخرج به على الناس، براء من المديح والمداهنة، والمخادعة والملاينة، والنفاق الاجتماعي والغرض المادي، ويأتي به صورة صحيحة لما يجيش في نفسه من خواطر، ويعتلج في حناياها من مشاعر، ويعتمل فيها من فكر.
ومن العجيب أن الثورة الفكرية، التي أحدثها السيد جمال الدين الأفغاني بمصر، وحمل مشعلها تلاميذه من عبده، قد أطفأها الإنجليز بطريقتهم العقلية في الثقافة والتربية، ولم ينج من شرهم إلا نفر قليل شاهدوا هذه الثورة الفكرية في عنفوانها، ورضعوا أفاويقها فظلوا إلى أوائل هذا القرن يحملون المشعل، ويهدون الأمة سواء السبيل.