أما الشعراء فلم يتأثروا بهذه الثورة في قليل أو كثير، ولم يلتفتوا كما التفت الكتاب إلى الشعب يفصحون عن علله وأدوائه وآلامه وآماله، ويغذوا فيه تلك الروح الوثابة، بل انصرفوا إلى الأمراء والوزراء، وذوي الجاه والمال يتملقونهم ويستجدونهم، لقد صار النثر بفضل ثورة جمال الدين ومحمد عبده وعبد الله نديم والمويلحي وأضرابهم معبرًا عن حاجات الشعب، بينما ظل الشعر بمنأى عن رغباته ومطالبه، مكيلًا بقيود الماضي.
حتى هؤلاء الذين تتلمذوا على البارودي لم يحاكوه في نبل أغراضهن وصدق عاطفته، وجمال تصويره لبيئته، لقد كان البارودي صادقًا في شعره حين يصف الريف المصري وما فيه من مناظر وزرع نضير، وهدوء، وشمس ضاحية صافية، وظل وريف: وحين يرثي أحباءه وأقاربه وأصدقاءه، وحين يصف بطولته وشجاعته في ميادين القتال، ويصف بجانب هذا الميدان وطبيعته، والأعداء وأحوالهم: حين يعبر عن ميوله السياسية، وما قاساه على يد الخديو من اغتراب ومحنة، وحنين إلى الأهل والوطن، ولم يمدح البارودي إلا نادرًا، ولم يرث إلا صديقًا حبيبًا.
وعلى العكس منه نرى هؤلاء الذين انتهجوا نهجه في الأسلوب، واغترفوا من تلك الينابيع العربية التي وردها، نراهم مداحين، هجائين، ندابين لكل عظيم ويقول الدكتور طه حسين:"وأصبح الشعر بفضل الشعراء، وكسلهم العقلي فنًا عرضيًا لا يحفل به إلا للهو والزينة والزخرف، فإذا أراد بنك مصر أن يفتتح بناءه الجديد طلب إلى شوقي قصيدة، فنظم له شوقي هذه القصيدة. وإذا أرادت "دار العلوم" أن تحتفل بعيدها الخمسيني كما يقولون طلبت إلى شوقي والجارم وعبد المطلب أن ينظموا لها قصائد، فنظموا لها القصائد، وإذا مات عظيم وأريد الاحتفال بتأبينه، أو نبه نابه، وأريد الاحتفال بتكريمه طلب إلى الشعراء أن ينظموا الشعر في المدح والرثاء، فنظموا كما كان ينظمه القدماء، فانحط العشر حتى أصبح كهذه الكراسي الجميلة المزخرفة التي تتخذ في الحفلات والمأتم، وأصبحنا لا نتصور