على فرنسا، ثم على أوربا، ثم على الباب العالي، وقدر جماعة منهم أن لا بد من الأخذ بسياسة أخرى هي إعداد الأمة بأدوات الاستقلال من علم وأخلاق، وغرس الإيمان بنفسها لا لمجرد كراهية الإنجليز، ولا حبًّا في الباب العالي ومقام الخلافة، ولكن حبًّا في الاستقلال والحرية لذاتهما، وكان لطفي السيد لسان الذين فكروا هذا التفكير١.
ولقد أفضت قليلًا في الكلام عن حزب الأمة وجريدته؛ لأنه كان حزبًا يدعو إلى التجديد مع الاعتدال، والتوفيق بين المدينة الحديثة، والحضارة الإسلامية وتعاليم الشرع، أو كانوا كذلك في أول الأمر؛ لقرب تأثرهم بآراء الشيخ محمد عبده؛ ولأن البيئة المصرية حينذاك لم تكن تتحمل التطرف الشديد في التجديد، ولكنهم فيما بعد، حين تمتعت مصر بشيء من الاستقلال والحرية دعوا إلى التجديد السافر في غير تحفظ، وإلى حرية الرأي ولو كان فيه شطط وخروج عن الدين والتقاليد. ويعتبر رجال هذا الحرب أنفسهم سواء -في السياسة أو العلم- من القادة الذين يجب أن يستمع الشعب لآرائهم، ويسير وراءهم، ولهم في السياسة منحى معروف ينم على أنهم أخلصوا للإمام محمد عبده ونظرته السياسية بعد وفاته، وتمسكوا بتعاليمه، فمنهم صار الأحرار الدستوريون فيما بعد، وهم الذين دعوا إلى إنشاء الجامعة المصرية، وقاموا بإنشائها فعلًا في سنة ١٩٠٨، وإن كان مصطفى كامل قد سبقهم في الدعوة إلى تأسيسها على نحو ما ذكرناه آنفًا، وهم الذين تولوا إدارتها فترة طويلة من الزمن في عهدها الحكومي، وقادوا الحركة الفكرية والتجديد في مصر في الآداب والفلسفة والاجتماع بقوة وجرأة، وربما كانت لنا عودة إليهم فيما بعد إن شاء الله.
على أن إنشاء الجريدة كذلك كان فتحًا جديدًا في عالم الصحافة من جهتين: إذ ضاعفت الأجور للكتاب، فارتفع مستواهم الأدبي، وجارهم في ذلك أصحاب الصحف الأخرى، وجودت المقالة تجويدًا عظيمًا، بيد أن الجريدة لم تستمر بعد