وثانيهما: سريان روح الخضوع واليأس في نفوس المصريين بعد الاحتلال ومن مظاهر هذا اليأس تنصل زعماء الثورة العرابية من تبعاتها، والتجائهم إلى الإنجليز يستمدون منهم الصفح والمعونة. وقد ظلت مصر في هذه الحالة الشنيعة من الخضوع، والاستسلام، والاستعمار يمكن لأقدامه، ويوطد من دعائمه إلى أن قيض الله لمصر في آخريات القرن التاسع عشر بضع نفر من المواطنين عملوا جهدهم إلى أن يعيدوا لها ما عزب من آمالها.
ولقد مر بك في الفقرة الأولى من هذا الفصل كيف أن اللورد كرومر قد طغى وبغى وتجاوز حده، وحكم مصر بيد حديدية إنجليزية، حتى صار فيها الحاكم المطلق، تحت إمرته جيش قوي، وشئون المال والأشغال والعدل في يد مستشاريه الإنجليز، ووزراؤنا لا يعنيهم إلا أن يرضوا العميد البريطاني، ولا سيما مصطفى فهمي الذي تولى الوزراء ثلاثة عشر عامًا متوالية من سنة ١٨٩٥ إلى سنة ١٩٠٨، وكان أطوع للإنجليز من بنان أحدهم، وكان إنجليزيًّا أكثر منهم، وكان يجاهر بأنه لا يستمد سلطانه من الخديو، وإنما يستمده من العميد البريطاني، ومثله نوبار ومحمد سعيد، ومن على شاكلتهم.
ولما توفي الخديو توفيق وتولى عباس العرش في ٨ يناير سنة ١٨٩٢ استبشرت الأمة خيرًا بعهده. وأملت أن يجلو الإنجليز عنها، ولكن إنجلترا تذرعت بصغر سنة ونادت صحفها١ بأن "إرتقاء الخديو الشاب عرش مصر يجعل بقاء الاحتلال أكثر ضرورة من أي وقت فلا يجوز منذ الآن الكلام عن الجلاء" وقالت: "إن وفاة توفيق هدمت آخر حجة للجلاء".
وابتدأ عباس يشعر بمرارة الاحتلال، والحد من سلطانه، وأخذ يناوئ الإنجليز، ويقف منهم موقفًا معاديًا في كثير من الأمور، وإن غلب على أمره في أكثر الأحيان، وكانت الأمة تشجعه، وتلتف حوله بادئ ذي بدء كما حدث حين أقال وزارة مصطفى فهمي الأولى "يناير ١٨٨٣" من غير أن يستأذن الإنجليز في ذلك،