يعيشوا أحرارًا في بلادهم غير خاضعين لهذه الأغلال الاقتصادية، وغير مقيدين في تصرفاتهم الوطنية.
فلا عجب إذن حين نرى شعراءنا نقيض بهم العاطفة فيقولون في "بنك مصر"، وفي مشروع القرش، وفي أول سرب من طياري مصر، وفي طليعة الملاحة المصرية، وفي مصنع النسيج بالمحلة، وغير ذلك من مظاهر النهضة الاقتصادية، والتي هي من أكبر دعائم الاستقلال، فقد كانت هذه الحقبة مليئة بعوامل اليقظة والرقي في كل ميدان من ميادين الحياة في السياسة، والاجتماع، والقومية بمظاهرها العديدة، وقد سجل الشعراء كل هذه المظاهر في شعرهم يترجمون به عما يختلج في صدور الأمة، ويطلبون المزيد منها لأنهم نصبوا أنفسهم في مقام الهداة والمرشدين، وقادة الفكر المصلحين، ويصدرون فيه عاطفة غالبًا، وعن تكلف أحيانًا، وقد تعدوا الكلام في هذه المظاهر إلى رثاء عظماء الأمة في كل نواحي نشاطها، سواء كانوا رجال سياسة، أو دين، أو صحافة، أو إصلاح، أو اقتصاد، حتى صار شعرهم وثيقة تاريخية، وصورة لعصرهم الذين عاشوا فيه.
وقد لا يرضى عن ذلك أصحاب المدرسة الجديدة، ولكنهم على الرغم منهم اضطروا إلى مشاركة الأمة في عواطفها، وإلى تغذية هذه العاطفة، وقد لا يكون هذا النوع من الشعر جاريًا على نمط الشعر الغربي الحديث، ولكنا أمة لها ظروفها الخاصة، وفي يده نهضة عامة شاملة، وفي أمس الحاجة إلى من يشجع المكافحين في سبيل مجدها أحياء، ويجعلهم مثلًا طيبًا لمن بعدهم أمواتًا.
كنت أود أن أسوق نماذج على كل لون من ألوان الحياة الاجتماعية، وأن أتعقب الشعراء واحدًا واحدًا كما فعلت في الشعر السياسي، بيد أنني أوثر هنا أن أكتفي بهذا التعميم، مرجئًا الأمثلة إلى حين الكلام عن الشعراء، وحسبنا أن نعرف الخطوط العريضة للعوامل الاجتماعية المؤثرة في الشعر الحديث، وهي لا تقل في قوة تأثيرها عن العامل السياسي بل ربما فاقته؛ لأن الأمة كانت حقًّا في مسيس الحاجة إلى الإصلاح الاجتماعي بعد أن طالبت هجعتها، وعمل المستعمر على أن تظل في تلك الهجعة.