للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد قال العقاد في كتابه "الديوان" وهو ينقد شوقي ويوجه الخطاب إليه: "اعلم أيها الشاعر العظيم، أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعددها، ويحصي أشكالها وألوانها، وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مزية الشاعر أن يقول ما هو، ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به"١. وقد فسر هذا مبينًا أثر التشبيه والاستعارات في الشعر وأن الغرض منها ليس تعداد الأشكال والألوان بقوله: "وإذا كان وكذلك من التشبيه أن تذكر شيئًا أحمر، ثم شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار، فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمرة بدل شيء واحد؛ ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعه وفكره صورة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع الشبيه لرسم الأشكال والألوان، فإن الناس جميعًا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس، وبقوة الشعور وتيقظه، وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه، ولهذا لا لغيره كان كلامه مطربًا مؤثرًا، وكانت النفوس تواقة إلى سماعه واستيعابه، لأنه يزيد الحياة حياة، كما تزيد المرآة النور نورًا، فالمرآة تعكس على البصر ما يضيء عليها من الشعاع فتضاعف سطوعه، والشعر يعكس على الوجدان ما يصفه فيزيد الموصوف وجودًا إن صح هذا التعبير، ويزيد الوجدان إحساسًا بوجوده.

وصفوة القول أن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورًا حيًّا ووجدانًا تعود إليه المحسوسات، كما تعود الأغذية إلى الدم، ونفحات الزهر إلى عنصر العطر فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية، وهناك ما هو أحقر من شعر القشور والطلاء وهو شعر الحواس الضالة والمدارك الزائفة، وكما إخال غيره كلامًا أشرف منه إلا بَكُمَ الحيوان الأعجم".


١ الديوان ص١٦ ج١.

<<  <  ج: ص:  >  >>