وقد جد منذ سنوات في البلاد العربية نزعة إلى التحرر من القافية وجعل التفعيلة لا البحر وحدة موسيقية في القصيدة وسموه الشعر الحر، ولا يزال هذا الضرب من الشعر في سبيل التجربة، ولم يأت بعد الشاعر الفحل الذي يستهوي الأسماع بسحر نغمه، والألباب بعذب شعره، والنفوس بقوة بيانه ورائع تصويره ومجنح خياله ونفيس معانيه ليدعم هذا الشعر ويعطيه مكانته في الأدب، ومعظم ما ينظم به النوع القصصي الساذج الذي يعبر عن أمور مألوفة وتجارب بسيطة، وقد رآه الشباب مطية ذلولًا وعملًا هينًا فآثروه على الشعر الموزون المقفى، وأدعوا أنه يتمشى مع الدفقة الشعورية.
وقد نبغ من الشباب من تحداهم، وبرهن على أن القيثارة العريقة التي ظل يعزف على أوتارها شعراء ستة عشر قرنًا لا تزال تبدع أروع الأنغام وأجمل ضروب الموسيقى. نقول هنا ولا نستطيع الحكم بعد على هذا الشعور، وإن كان ما سمعناه منه حتى اليوم: لا، يبشر بخير كثير.
أما الشعر المنثور الذي روعيت فيه القافية وأهمل الوزن.. فله أمثلة كثيرة، وهو لا يخرج على نظام النثر المسجوع في الأدب القديم، ومثاله في أدبنا المعاصر قوله شوقي يخاطب ولديه وهو يغادر مصر في طريقه إلى منفاه:
"تلكما يا ابني القناة! لقومكما فيها حياة، ذكرى إسماعيل وروياه، وعليها مفاخر دنياه، دولة الشرق المرجاة، وسلطانه الواسع الجاه، طريقة التجارة، والوسيلة والمنارة، تعبرانها اليوم على مزجاة، كأنها فلك النجاة، خرجت بنا بين طوفان الحوادث، وطغيان الكوارث، نفارق برًّا مغتصبة مضري الغضبة، قد أخذ الأهبة، واستجمع كالأسد للوثبة، ديك على غير جداره، خلا له الجو فصاح، وكلب في غير داره، انفرد وراء الدار بالنباح، ونقابل بحرًا قد جنب جواريه، ونزت بالشر نوازيه، ومن نون ينسف الدوارع أو طير تقذف البيض مصارع إلخ". وقد جمع هذا الضرب من الكلام في كتاب خاص سماه "أسواق الذهب"١.