للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هواء مصر، وكبرها إلى هذا المقدار، وقد طالما كانت في بلادها لا تساوي قارورة الفراش، ولا توازن ناقورة الفرَّاش، وكيف كانت هناك كالتراب، فأصبحت هنا كالتبر؟ يا هواء مصر، يا نارها، يا ماءها، يا ترابها١ صيري طربوشي هذا "برنيطة"، وإن يكن أحسن منها عند الله والناس وأفضل، وأجمل وأمثل، وللعين أبهى وأكمل, وعلى الرأس أطبق, وبالجسم أليق.. قال: فلم يغن عني النداء شيئًا، وبقي رأسي مطربشًا، وطرف دهري مطرفشًا٢.

ومن خصائصها أيضًا أن البغاث بها يستنسر، والذباب يستصقر، والناقة تستبعر، والجحش يستمهر، والهر يستنمر، بشرط أن تكون هذه الحيوانات مجلوبة إليها من بلاد بعيدة.

ومن ذلك أن كثيرًا من أهلها يرون أن كثيرة الأفكار في الرأس يكثر عنها الهموم والأكدار, أو بالعكس، وأن العقل الطويل يتناول البعيد من الأمور, كما أن الرجل الطويل يتناول البعيد من الثمر وغيره, وأن تلك الكثرة سبب في الإقلال، فما دام النور موقدًا، فلابد أن تفقد الفتيلة، ولا يمكن إبقاؤها إلّا بإطفاء النور، أو كالماء في الوادي, فإذا دام الماء جاريًا فلابد أن ينصب في البحر، فمتى حقن بقي، أو كالفلوس في الكيس، فما دام المفلس أي: صاحب الفلوس يمد يده إلى كيسه، وينفق منه, فني ما عنه, إلّا أن تربط يده عن الكيس، أو يربط الكيس عن يده، فمن ثَمَّ اصطلحوا على طريقةٍ لتوقيف جريان العقل في ميدان الدماغ حينًا من الأحيان، ليتوفر لهم في غيره، وذلك بشرب شيء من الحشيش، أو بمضغه، أو بالنظر إليه، أو بذكر اسمه، فحين يتعاطونه تغيب عنهم الهموم، ويحضر السرور، وتولي الأحزان، ويرقص المكان".


١ يشير بالهواء والنار والتراب والماء إلى العناصر الأربعة, التي كان يعتقد الفلاسفة القدماء أنها أصل المواد.
٢ الطرف العين: وطرفشت العين: أظلمت وضعفت، وفلان نظر وكسر عينيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>