للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن البكري في هذا تأثر على أوضاع شاذة في مصر، مع أنه من أبناء الخاصة الذين شبوا في حضن النعيم، ولكنه كان ذا نظرة ثاقبة وفكر رشيد، وقلب رحيم، وعقل حكيم، ولعله رأي في رحلاته إلى أوربا مبلغ ما وصل إليه الناس من المساواة، وأن أبناء الخاصة يعملون لنفع أمتهم كما يعمل أبناء العامة، وربما كانت آراؤه هذه هي التي تأذى منها "عباس" فنظرته إلى الحكام، وإلى أبناء الخاصة، وآراؤه الاشتراكية لم يكن يرضى عنها عباس، وهو الذي اشتهر بحبه لجمع المال، وبعداوته للنظم الديمقراطية وحرم الأمة مجلسًا نيابيًّا صحيحًا.

ثم استمع إليه كيف يصور أبناء العامة, ويصف شقاءهم وتعاستهم، والتفاوت العظيم بينهم وبين أبناء الخاصة الذين وصفهم من قبل.

"وأما العامة أيدك الله فهم عظم على وضم، وصيد في غير حرم، سيد مأسور، والإخشيد في يد كافور، ويتيم غني في يد وصي.

وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظ الأسير على القد١

وأرى رجالًا لا تحوط رعية ... فعلام تؤخذ جزية ومكوس

ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... وعدوا مصالحها وهم أجراؤها

فبينما ترى قصورًا وثراء، وحبورًا، وسراء وعربات تترى، يعدو أمامها السليك الشنفري٢. ويقودها داحس والغبراء٣ على بساط الغبراء، وخراج قرية أو قريتين يذهب في لهو ليلة أو ليلتين، تجد أرملة صناعًا، وأيتامًا جياعًا، وشيخًا يعمل وهو في أرذل العمر، يقعده العجز، ويقيمه الفقر، أو عذراء كانت تبيع عرضها للاحتياج، أو مريضًا عاجزًا عن العلاج، وبينما ترى وذاحًا٤ في جيدها عقد، كأنه فرود حضار٥، وفي أخمصها نعل في نضار، ترى بائسة في عنقها عقد من دموع، وفي بيتها فقر وجوع، حال تطرف العيون وتثير الشجون".

إن هذه آراء متقدمة على زمانة ولا سيما في مصر، وإذا كان جمال الدين قد نبه المصريين إلى المطالبة بالشورى، فإنه لم يعن العناية الكافية بالإصلاح الاجتماعي على الرغم من صيحته المدوية للمصريين بأنهم نشئوا في الاستعباد،


١ الفد: السير من جلد مدبوغ.
٢ السليك والشنفري: من العرب العدائين.
٣ داحس والغبراء: جوادان قامن بسبب سباقهما حربي طويلة بين عبس وذبيان في الجاهلية.
٤ الوذاح: الفاجرة.
٥ فرود حضار: كواكب، وحضار اسم كوكب يشبه بسهيل قال الشاعر:
أرى نار ليلى بالعقيق كأنها ... حضار إذا ما أعرضت وقودها

<<  <  ج: ص:  >  >>