للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فرقاً بينهما، ومن أنكر هذه التفرقة لم يعد من العقلاء، وكل ما ورد في القرآن من قوله يعملون، ويعقلون، ويكسبون، ويصنعون حجة عليهم وكذلك قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ولو لم يكن للعبد اختيار كان الخطاب معه محالاً، والثواب والعقاب عنه ساقطين كالجمادات" وقد رد الله تعالى على الجبرية والقدرية في آية واحدة قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} .

قال العلامة ابن القيم حول هذه الآية: "اعتقد جماعة أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه وإضافته إلى الرب تعالى، وجعلوا ذلك أصلاً في الجبر وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده، وهذا غلط منهم في فهم القرآن، فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال، فيقال ما صليت إذ صليت، وما صمت إذ صمت، وما ضحيت إذ ضحيت، ولا فعلت كل فعل إذ فعلته، ولكن الله فعل فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق، فإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها، أو رميه وحده، تناقضوا فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية وبعد فهذه الآية نزلت في شأن رميه صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر بقبضة من الحصباء، فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته، ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ فكان منه صلى الله عليه وسلم مبدأ الرمي وهو الحذف، ومن الله ـ سبحانه وتعالى ـ نهايته، وهو الإيصال فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته، ونظير هذا قوله في الآية نفسها {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ} ثم قال {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} فأخبر أنه وحده هو الذي تفرد بقتلهم ولم يكن ذلك بكم أنتم، كما تفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم من رسوله، ولكن وجه الإشارة بالآية: أنه سبحانه أقام أسباباً ظاهرة لدفع المشركين وتولى دفعهم وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافاً إليه به وهو خير الناصرين" اهـ.


١ - سورة المدثر آية: ٣٨.
٢- التبصير في الدين ص١٠٧ ـ ١٠٨ وانظر الفرق بين الفرق ص٢١١، والملل والنحل ١/٨٧.
٣- سورة الأنفال آية: ١٧.
٤- مدارج السالكين ٣/٤٢٦ ـ ٤٢٧، وانظر التفسير القيم ص٢٨٧ ـ ٢٨٨. وانظر شرح الطحاوية ص٤٩٤ ـ ٤٩٥.

<<  <   >  >>