للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالقول الأول وهو قول الجبرية من أفسد المذاهب إذ أنهم غلوا في إثبات القدر حتى نفوا فعل العبد بالكلية وجعلوه كريشة في مهب الريح تصفقها كيف تشاء.

وأما القدرية نفاة القدر فقد جعلوا العباد خالقين مع الله ـ تعالى ـ ولهذا كانوا "مجوس هذه الأمة"١ بل أخبث من المجوس حيث أن المجوس أثبتوا خالقين اثنين وهم أثبتوا خالقين كثيرين. وللجبرية والقدرية أدلة يستدلون بها على دعاويهم الباطلة ومذاهبهم الفاسدة وهي في الحقيقة حجج عليهم في بطلان ما يدَّعون. فما استدل به الجبرية: قوله ـ تعالى ـ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} ٢ قالوا: إن الله نفى عن نبيه الرمي وأثبته لنفسه ـ سبحانه ـ فدل على أنه لا فعل للعبد. وقالوا أيضاً: إن الجزاء غير مرتب على الأعمال بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل أحداً الجنة عمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة" ٣. ومما استدل به القدرية قوله ـ تعالى ـ {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ٤ قالوا: والجزاء مرتب على الأعمال ترتب العوض كما قال ـ تعالى ـ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ٥ {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ٦ وحجج الفريقين عليهم لا لهم.

فأما ما استدل به الجبرية من قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} ٧ فهو دليل عليهم لا لهم لأنه ـ تعالى ـ أثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم رمياً بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} ومن هنا يعلم أن المثبت غير المنفي وذلك أن "الرمي" له ابتداء وانتهاء فابتداؤه الحذف، وانتهاؤه الإصابة، وكلاهما يسمى رمياً فيكون المعنى حينئذ والعلم لله تعالى: "وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب" وإلا فيطرد على قولهم: "وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى! وما صمت إذ صمت وما سرقت إذ سرقت! وبطلان هذا بين واضح"٨.


١- انظر سن أبي داود ٢/٥٢٥ من حديث ابن عمر.
٢- سورة الأنفال آية: ١٧.
٣- رواه البخاري من حديث عائشة الفتح ١١/٢٩٤، صحيح مسلم ٤/٢١٧١.
٤- سورة المؤمنون آية: ١٤.
٥- سورة السجدة آية: ١٧.
٦- سورة الزخرف آية: ٧٢.
٧- سورة الأنفال آية: ١٧.
٨- شرح الطحاوية ص٤٩٥ وانظر مجموع الفتاوى ٨/١٨، التبصير في الدين ص١٠٧.

<<  <   >  >>