للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذه العقوبة التي ذكرت في الحديثين السابقين للغال تحصل له على وجه الحقيقة كما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.

قال القرطبي: "قال علماؤنا رحمهم الله في قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ١ أن ذلك على الحقيقة كما بينه صلى الله عليه وسلم أي: يأت به حاملاً له على ظهره ورقبته معذباً بحمله وثقله ومرعوباً بصوته، وموبخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد"٢.

والذي نخلص إليه مما تقدم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله ـ تعالى ـ سيجازي المكلفين من عباده بحسب كسبهم الإرادي الإختياري الذي كسبوه في هذه الحياة الدنيا لأن الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} ٣.

فالعباد يعيشون في هذه الدنيا متفاوتين تفاوتاً عظيماً في الأرزاق، والآجال، والأعمال، وفي السعادة والشقاوة، فمنهم الظالم العنيد، ومنهم المظلوم المغلوب، ومنهم الذليل، ومنهم الصحيح السليم، ومنهم المريض، ومنهم الغني الثري، ومنهم الفقير، ومنهم العزيز ومنهم الذليل، ومنهم المحسن، ومنهم المسيء، فاقتضت حكمة الله وعدله أنه لا بد من أن يجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته ولو أنهم يموتون عند انقضاء الآجال ولا يبعثون لكان ذلك منافياً للحكمة، مجانباً للعدل والرحمة، ولذلك قضى الله ـ عز وجل ـ بالبعث والجزاء وحكم بهما فهما كائنان لا محالة، ولذلك أمر الله ـ تبارك وتعالى ـ رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقسم على وقوعهما، قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} ٤.

وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ * إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ٥.


١- سورة آل عمران آية: ١٦١.
٢- التذكرة للقرطبي ص٢٩٦، وانظر "فتح الباري" ٦/١٨٦.
٣- سورة آل عمران آية:١٨٥.
٤- سورة التغابن آية: ٧.
٥- سورة النحل آية: ٣٨ ـ ٤٠.

<<  <   >  >>