وأمَّا حديث أنسٍ ﵁:«كان رسول الله ﷺ إذا خرج مسيرة ثلاثة أميالٍ أو فراسخ صلَّى ركعتين» فالظَّاهر: أنَّه إخبارٌ عن ابتداء القصر الواقع من النَّبيِّ ﷺ في أسفاره؛ لا تحديدٌ لمسافة القصر، ولا لمسافة ابتداء القصر، وإلَّا فمن المعلوم أنَّ ثلاثة أميالٍ لا يصدق عليها اسم السَّفر بحالٍ من الأحوال.
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حكم القصر إذا أقام المسافر أثناء سفره في بلدٍ أو مكانٍ؛ وله في هذا حالان:
إِحْدَاهُمَا: ألَّا يعزم على الإقامة مدَّةً معلومةً؛ بل كلَّ يومٍ يقول: أخرج غدًا، فله القصر أبدًا.
الثَّانِيَةُ: أن يعزم على الإقامة مدَّةً؛ فإن كانت يومًا أو يومين أو ثلاثةً فله القصر، وإن كانت أكثر من ذلك فالجمهور على أنَّه إذا عزم على الإقامة أكثر من أربعة أيَّامٍ أتمَّ منذ نوى الإقامة، وقيل: يقصر أبدًا؛ ما لم يعزم على الاستيطان بذلك المكان.
وبين هذين القولين أقوالٌ أخرى؛ قيل: عشرة أيَّامٍ، وقيل: خمسة عشر يومًا، وقيل: عشرون يومًا.
وحجَّة الجمهور أنَّ فرض المقيم الإتمام؛ فمتى أقام المسافر أتمَّ، وخصُّوا من ذلك إذا أقام أربعة أيَّامٍ فأقلَّ؛ لما ثبت أنَّ النَّبيَّ ﷺ أقام بمكَّة عام حجَّة الوداع أربعة أيَّامٍ يقصر قبل خروجه إلى منًى، واحتجَّ القائلون بالإطلاق بآثارٍ عن بعض الصَّحابة ﵃ أنَّهم قصروا شهورًا وربَّما سنةً أو سنتين؛ ولعدم الدَّليل على تقييد مدَّة القصر.
وَأَضْبَطُ هذه الأقوال هو ما ذهب إليه الجمهور من التَّقدير بأكثر من أربعة أيَّامٍ. وأمَّا القول بالإطلاق فيرد عليه أنَّ الَّذي يقيم سنين ليس هو في حال سفرٍ؛ بل في حال إقامةٍ، نعم؛ لكنَّه غير مستوطنٍ، والمقابل للسَّفر هو الإقامة، لا الاستيطان.