ثلاثون سنة ما خرجت منها إلا بشيء واحد، هو أني رأيت الحياة كمائدة القمار؛ فمن الناس مَن يخسر ماله ويخرج ينفض كفه، ومنهم مَن يخرج مثقلاً بأموال غيره التي ربحها، ومنهم مَن يقوم على الطريق يمسح الأحذية، ومَن يمد إليه حذاءه ليمسحه له، ومَن ينام على السرير، ومَن يسهر في الشارع يحرس النائم، ومَن يأخذ التسعة من غير عمل، ومَن يكدّ ويدأب فلا يبلغ الواحد، وعالِم يخضع لجاهل، وجاهل يترأس العلماء، ورأيت المال والعلم والخلق والشهادات قسماً وهبات؛ فرُبّ غني لا علم عنده، وعالِم لا مال لديه، وصاحب شهادات ليس بصاحب علم، وذي علم ليس بذي شهادات، ورُبّ مالك أخلاق لا يملك معها شيئاً، ومالك لكل شيء ولكن لا أخلاق له، ورأيت في مدرِّسي المدارس مَن هو أعلم من رئيس الجامعة، وبين موظفي الوزارة مَن هو أفضل من الوزير ... ولكنه الحظ الأعمى، أو هي حكمة الله لا يعلم سرّها إلا هو، ابتلانا بخفائها لينظر: أَنَرضى أم نسخط؟
ولكن ما أضيع أيامي في مدرسة الحياة إن كان هذا كل ما تعلمت منها في ثلاثين سنة!
* * *
لقد أذّنَ الفجر وأنا ساهر، وأضيئت منارات دمشق التي لا يحصيها عدّ، ورنّ صوت المؤذّنين في أرجاء الوجود صافياً عذباً: الله أكبر ... الله أكبر.