هما موقفان لا أزال أذكرهما، أو تغمض عيني كف الغاسل:
أما الأول فعلى ضفاف بردى، في الثامن والعشرين من أيلول ١٩٢٦.
وأما الثاني فعلى شاطئ دجلة، في الخامس من أيار ١٩٣٧.
* * *
كان بردى يخطو على مهل متهللاً منطلق الوجه، يردّ على الشمس الوليدة أولَ تحياتها وهي تغمره برشاش من عطر أشعتها الحمراء ... وكنت في السيارة الفخمة، أنظر إلى جموع المودّعين من الصحب والرفاق، الذين خرجوا من بيوتهم في هذا الصباح ليودّعوني قبل نزوحي إلى العراق، فأقلب النظر في وجوههم شاكراً لهم فضلهم حزيناً لفراقهم، ثم أتأمل بردى صديق الصبا وسمير الوحدة ونجيّ النفس، فأبصر في خلاله ظلال الحور والصفصاف تميس دلالاً وتيهاً، وأرى ظلال المآذن البعيدة السامقة تضطرب