... يقولون إن الإنسان يأكل ليعيش، ولكني أعيش في هذه الأيام لآكل. آكل بشراهة ونهم حتى أحسّ الامتلاء ولا يبقى في المعدة مكان لذرّة، فأدع الطعام آسفاً وأنظر إلى الأطباق وما فيها نظرة المودِّع الحزين، ثم أقوم إلى كتابي فأفتحه أو إلى شبّاكي أطلّ منه، أتلهّى بهذا أو بذاك حتى أحسّ (أو أتوهم أني أحسّ) جوعاً، فأدعو بالطعام، أو تمضي ثلاث ساعات، فآكل ولو لم أكن جائعاً ... ألم يقل لي الطبيب: كُلْ كلَّ ثلاث ساعات؟!
ذلك لأني لبثت عشرين يوماً أشتهي قطعة الخبز فأطلبها وألح في طلبها فتمتنع عني، وأُحرمها فأراها في منامي، وأحلم بها في يقظتي تجسمها لي أمانيّ وأفكاري فأتخيل أني قد نلتها، فإذا أنا لم أنل إلا هذا اللبن (الحليب) الذي برمت به واجتويته، والذي يفضّل المريض رؤية عزرائيل على رؤيته يطالعه في الصباح وفي المساء، والذي كرهت لأجله كل أبيض ... حتى بياض الفجر وبياض النحر! والذي أصبح قذىً في عيني لا أطيق رؤيته وسمّاً في فِيّ لا أقدر على تذوقه ... ثم فرّجَ الله عني بعد الضيق وأنالني ما أشتهي من الأطعمة وأريد، فكيف لا أهجم عليها بشراهة ونهم،