توالت عليّ الذكريات، فألقيت كتابي وأقبلت على ماضيّ، أفتش في حدائقه القاحلة عن وردةٍ أخطأَتها رياح الشتاء العاتية وثلوجه وأمطاره، فتوارت في كنف صخرة أو في حِمى جدار، تكون صورة من الربيع الغابر ... فلم أجد إلاّ رفات الأوراق التي كانت مخضرَّة زاهية، وهياكل الأشجار العارية التي كانت تلبس من حلل الربيع سندساً وحريراً، قد خيّمَ عليها الموت وشملها برده القارس. فحولت وجهي شطر المستقبل، فلم ألقَ إلاّ ظلاماً فوقه ظلام، ووجدت حاضري راكداً ركود الفناء، ساكناً سكون العدم؛ فضاق صدري وأغرقتني في بحرها الهموم، فجعلت أفتّش عن رفيق يأخذ بيدي، وصديق أبثّه همي وأشكو إليه بثي، فلم أجد لي صديقاً إلاّ القراء؛ أولئك هم أصدقائي الذين لا أعرفهم ولا أنتفع منهم بشيء، وما لي منهم إلاّ اعتقادي بأنهم يعطفون عليّ ولا يشاركون الحاسدين المؤذين حسدهم إيّاي وإيذاءهم لي، فكتبت إليهم أحدّثهم بشكاتي وأروي لهم ذكرياتي. ولعل هؤلاء القراء يضيقون بحديثي صدراً ويعرضون عنه ويستثقلونه، ولعلّ