اعتقادي بصداقتهم وَهمٌ من الأوهام، غير أني لا أحب أن أُرزأ هذا الوهم ولا أن أتيقن فساده، لأني أعيش به في دنيا الحقائق المرة.
ومَن كان مثلي غريباً في بلدته التي يعرف نصف أهلها ويعرفه ثلثاهم، يمشي في المدينة الحافلة بالناس مستوحشاً منفرداً كأنه في صحراء، لا يلقى إلاّ رجالاً لا يثني تعدادُهم أصابعَ اليدين، يجول في هذه الحلقة المفرغة، لا منقذ له منها ولا مخرج، قد خلت حياته من الفرح والألم، وغدت كالماء الآسن لا تموج فيه موجة ولا تحركه ريح ... ومن كان يتمنى أن يجد ما يشغله ويحرك سواكن نفسه، وما يدفعه إلى الفكر والعمل، ولو كان البلاء النازل أو الحريق المشبوب، أو النفي أو السجن ... ومن كان يصبح فلا يدري ماذا يعمل في يومه وكيف يدفع هذا اليوم، ويمسي فلا يعرف ماذا يصنع في مسائه وكيف ينام ذلك الليل ... ومَن يحسُّ بثقل الأفكار على عاتقه ولكنه لا يجد إلى بثّها سبيلاً، ويرى الوقت طويلاً والقوة حاضرة ولكنه لا يعلم فيمَ ينفق وقته ويصرف قوّته ... ومن كان معتزلاً مثلي، لا زهداً في الحياة ولا هرباً من معاركها، ولكن يأساً من مقبل أيامها وقنوطاً من خيرها، فهو يخلو إلى ذكرياته يتعلل بها ويتمززها، ويحادثها ويناجيها، ويحيا في خيالات ماضيه حين عجز عن الحياة في حقيقة حاضره ... ومن كان مثلي لا يشكو الفقر في اليد ولا في النفس، ولكن الفقرَ في العمل ... ومن كان يجد -بحمد الله- من المال ما يكفيه في يومه ويفضل عن حاجته، ولكنه لا يدري ما يكون في غده ... ومَنْ كانت شكواه فرط الحس وحدّة الشعور وجحود الناس، وكان يشكو