دنيا يتقدم فيها الهجين ويتأخر الجواد الكريم، دنيا فسد فيها كل شيء حتى غدا عقلاؤها ينتظرون الساعة ...
مَنْ كان كذلك أدرك حقيقة حالي وفهم مغزى مقالي، ولم يلمني مع اللائمين ولا كان عليّ مع العُداة الحاسدين.
* * *
وكم قائل لي: ألا تنسى هذا الماضي وتستريح من ذكراه؟ ألا تدع المستقبل وتطَّرِح التأميل فيه؟ ألا تعلم أن ما مضى فات والمؤمَّل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها؟ فأقول: بلى؛ إنّي لأعلم ذلك، ولكن أين السبيل إلى النسيان؟
وإذا أنا نسيت كل شيء فكيف أنسى أياماً عشتها لم أكن فيها الطائرَ المقصوص الجناح، ولا الغصنَ الذي قصفته الرياح، بل كنت أواجه العاصفة أستند إلى الجذع المتين، جذع السنديانة الراسخة، وأطير فوقها بجناحين قويين ... فهاض الدهر جناحي وكسر جذعي، حين أفقدني أمي، وصيّرني عرضة للعواصف، وجعلني معها كالريشة لا تستقرُّ على حال من القلق والذعر والاضطراب!
وكيف أنسى أنه لو عاش أبي، العالِم الوجيه ذو المرتّب الضخم، ولم تخترمه المنية شاباً، لاحتمينا به من كيد الحياة ولنشأنا في ظلّه كما ينشأ الفرع الليّن وسط الدوحة القوية الممتدة الأفنان، ولما اضطُررنا إلى مواجهة الدنيا والتمرس بنكباتها ومعرفة لؤم أهلها، ونحن فتية صغار أطهار القلوب، مبرؤون من الذنوب، ولا نلبث حتى نتلوث بأوضار الكيد والمكر، ونتلقف مبادئ