«علم الحياة» كما يتلقف الصبي المخطئ مبادئ «فن الجريمة» في السجن الأول، فلا يخرج منه حتى يحمل شهادة «البكالوريا» في الإجرام؟!
وكيف أنسى ما نثرتُ من قِطَع قلبي وفلذات كبدي في أرض الله الواسعة، التي لا ترعى مهد العواطف ولا تحفظ عهد القلوب، في سفح قاسيون الحبيب، وفي الغوطة الغنّاء ...
وفي حرش بيروت الذي يميس صنوبرُه مَيَسان الغيد الحِسان وقد خرجن متبرجات ينظرن إلى مياه البحر بعيون لها زرقةُ مائِه، ولأسرارها بُعدُ قرارِه ... ذلك الحرش؛ لي تحت كل شجرة منه ذكرى لا يدريها إلاّ الله وقلبي وذلك القلب الذي سلا وقلى ... وما سلوت ولا قليت، وما أذعت له سراً ولا أفشيت!
وفي طريق صيدا، كم صببت من العواطف واستودعت من الذِّكَر؟ سلوا تلاميذي طلابَ الكلية الشرعية في بيروت: ألم يشهد لنا هذا الطريق أنّا كنا خير مَن مرّ به من إخوان متوادّين، قد جمعت صداقتُهم قلوبَهم فمزجتها كلها، ثم قسمتها، ثم أعادتها إليهم، فعاشوا جميعاً بقلب واحد والأصدقاء يعيشون بقلوب شتى. هؤلاء الإخوان الذي وفيت لهم فوفوا لي، وأحببتهم فأحبوني، ورأيت منهم -لمّا مرضت فيهم (١) - ما لو تخيله القصصي الأديب لاستُكثِر وعُدَّ مبالغة من المبالغات.
(١) خبر هذا المرض في الحلقة ١٠٤ من «ذكريات علي الطنطاوي» (ج ٤ ص ٦٦ وما بعدها)، وانظر مقالة «بعد المرض» التي ستأتي في هذا الكتاب (مجاهد).