وفي العراق، كم خلّفت من حياتي؟ وما الحياة إلاّ خفقات القلوب، وتردد الأنفاس، ومظاهر العواطف! على طريق الأعظمية، وفي الكَرْخ الأقصى في حيّ الجعيفر، وعلى الجسر وفي الأعظمية، وفي البصرة، وفي كركوك ... بقع أعزة عليّ، وقوم أحبّة إليّ، لولا خوفي من ألاّ يصدّقوني لحلفت لهم أنه لم يَطِب لي بعدهم عيش. فهل يكتب الله عودة لتلك الليالي، فيجتمع الشمل، ويلتئم الصدع، وتلتقي الذكريات بالآمال؟
إني أسأل الله فنبّئوني: هل مدَّ يديه أديبُ بغداد الأستاذ الأثري، فقال: آمين؟
يقولون لي: انسَ، ولكن كيف السبيل إلى النسيان؟
وكيف أنسى أيامي في مصر؟ مصر التي محت صورَها السنون من نفسي فلم يبق منها (ويا أسفي!) إلاّ صورة ميدان باب الخلق، مَجازي في غدوّى ورواحي، وحديقة الاستئناف التي كنت أتأملها وأنا في «المطبعة السلفية» عند خالي، والتي استودعتُها من العواطف عددَ أوراقها وأزهارها وحبات ترابها، ودار الكتب التي كان بها الشاعر الكبير حافظ رحمه الله، وشارع محمد علي، والعتبة الخضراء (الضيّقة) التي لم تكن تخلو يوماً واحداً من ميت مدعوس، وصورة زقاق حوله أنقاض مهدَّمة ومنازل حقيرة بالية كنت أمر به كل يوم في ترام السيدة، في ذهابي إلى دار العلوم وعودتي منها، يسمى شارع الخليج، زعموا أنه صار اليوم شارعاً عظيماً وصار فيه بنيان ... وجسر الزمالك حيث كان يطيب لي الوقوف بإزائه كل مساء، أتبع ببصري الشمس الغاربة