له في هذه اللغات البشرية إلاّ لفظ واحد يدل عليه ويشير إليه ... يا ما أفقر لغات البشر!
وكان تذوُّق الجمال يهيج في نفسه الأدب، والأدب هو البثُّ، فلا تتمّ له متعة ولا يحلو له نعيم حتى يُشرك الناس معه في نعيمه. وكذلك الأديب؛ يجود على الناس بأعزّ شيء عليه: بشعوره وعواطفه، فيفتح لهم نفسه ويكشف لهم عن سرائره ولا يستأثر دونهم بشيء، فهم معه في ألمه وسروره ويأسه وأمله، يتلو عليهم نبأ حبه وبغضه وحركاته وسكناته، فيشاركونه حياته، ثم يقولون: عجباً لهذا الغبيّ الثرثار الذي لا يفتأ يتحدث عن نفسه، ولا ينفك مزهوّاً بها زهو الديك بريشه، مالئاً الصحائف بأخبارها، كأنّ الناس لا همَّ لهم إلاّ أن يسمعوا خبرها! ما درى الظالمون أنهم يتهمون بالأثَرة رجلاً هو أول المُؤْثِرين!
وكان ينقل ما يحس به من معاني الخلود إلى لغة الفناء، فلا يبقى منه إلاّ الأقل الأقل، ثم يعدُّه للنشر فيضيع أكثر جماله الباقي بين مراعاة آداب المجتمع وقوانين النشر وأذواق الناشرين ونزعات القارئين، ثم ينشر فإذا هو يرضي القراء، وإذا منه المعجِب المطرِب المقيم المقعِد، ولكنه لا يرضى عنه ولا يُعجب به، لعلمه بأن خير ما كتب ما (١) لم يعبّر عنه بلفظ ولم يجرِ به قلمٌ على قرطاس ... وما كان يا سيدي ليفخر أو ليزهى، وإنه لأعرف الناس بنفسه وعيوبها وأدبه ونقائصه، ولكنك فتحت عليه باباً للذكريات أعياه الليلة سدُّه، وقد كان قبل اليوم مسدوداً.