للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولا يميل إليه، وإذا اضطر أكَلَ أكْلَ من قزَّت نفسه واكتفى بلُقيمات ما يقمن صلبه، كأنّ هذا المرض لا يرضيه ما يفسد من النفس حتى يحطم الجسم! وأصابه الأرق، فأمسى يبيت ليله سهران مسهَداً، وإذا رنق النوم في عينيه (١) وغلبته حاجة جسمه خفق خفقة ثم أفاق فَزِعاً، يفكر في هذا الإنسان، يخاف أن يطير مع الأنفاس، أو يسيل مع الدمع، أو يغْرق في بحر عينيه!

فهَزُلَ جسمه وخارت قواه وتراخت مفاصله، وشحب وجهه، وآض ساهماً رازماً، ضعيفاً مُخَبْخَباً (٢)، ولم يعد يعيش إلاّ على المجاز؛ يعيش بذكرى أيامه الماضية قبل أن يصيبه هذا السل، أيام كان ذا جسم قوي وفكر ثاقب وقلب شاعر ... ولم يعد ينتفع بنفسه أو ينتفع بها الناس بشيء، لأنه أصبح لا لنفسه ولا للناس ولا للحياة، ولكن لإنسان واحد يحبه.

وهكذا الحب أبداً: مرض في الجسم، وضيق في الفكر، وفرار من حومة الحياة!

* * *

وكان أمس، وكان يوماً من أيام الخريف في بغداد، هبت فيه الرياح خرقاء هوجاء مُعصِفة، تُذَعذع (٣) الأشجار، وتثير الأوراق،


(١) رنّقَ النومُ في عينيه: خالطهما ولم ينم (مجاهد).
(٢) نقول: رزمَ فلان إذا قام فلم يقدر على الحركة من الإعياء أو إذا كان قائماً فسقط من الإعياء والهزال، وتخبخب: هزل بعد سمن (مجاهد).
(٣) أي تميل.

<<  <   >  >>