وجلس الشاب (الليسانسيه في الحقوق) يدوّن آراءه تلك في كتاب، فلما انتهى منه حمله إلى الناشر وكله زهو وإعجاب بنفسه، فقلّبه الناشر العامي وصفحه (١)، فلما رأى اسم صاحبنا عليه لوى شفتيه وقوّس حاجبيه، وقال له: إن الناس لا يقرؤون الآن ما تكتب، ومتى صرت (في المستقبل) كاتباً مشهوراً ننشر لك آثارك.
فخرج متعثراً بأذيال الخيبة، يلعن المستقبل لعناً.
* * *
ما هو هذا المستقبل؟ وهل اقتربتُ منه شبراً واحداً وأنا أركض وراءه منذ سبعة وعشرين عاماً؟ فمتى أصل إليه؟ وأين هو؟ أهو في العام الآتي؟ أهو فيما بعد خمس سنين؟ وهل يبقى مستقبلاً إذا أنا بلغته أم يصبح حاضراً ويكون عليّ أن أبلغ مستقبلاً آخر؟ ... أيكون مستقبلي القبر؟ لقد طوّفت في الآفاق وشرّقت وغربت وأنجدت وأعرقت ... فما رجعت إلاّ بالخيبة والتعب والإفلاس. فأين أجد الهدوء والراحة من هموم العيش حتى أنصرف إلى ما خُلقت له من الدرس والمطالعة والكتابة والتأليف؟
* * *
(١) علّق الشيخ على هذه الكلمة في غير هذا الموضع من كتبه فقال إن الصواب صَفَحَ لا تصفّح. وفي المعجم: صَفَحَ ورقَ الكتاب: عرضه ورقة ورقة (مجاهد).