لقد قعدت لأكتبها، فأحسست أنها قد عادت لي أيامي المواضي التي افتقدتها وأيقنت أنها لن تعود، ورُفع لي الستار عن عالم كله حبٌّ وطهر وجمال، عالم عشت فيه أنا وأنور أمداً، ثم أضعناه وضللنا طريقه. عالم كان حقيقة فصار (مع الأسف) ذكرى، وكان واقعاً فغدا خيالاً، وكنا فيه فصرنا غرباء عنه، لا نراه إلاّ بقلوبنا من خلال ضباب الماضي.
فُتحت عليّ أبواب الذكريات، وكرَّ عليّ هذا الماضي كأنما هو (فِلْم) حافل بكل جميل ونبيل، (فِلم) طويل عُرض في لحظات وقد تصرّمَتْ في تأليفه وإخراجه ثلاثون سنة، (فِلم) كنّا نحن أبطاله وكنا نحن ممثليه، فصرنا نرى فصوله تعرض علينا من بعيد.
رأيت الفصل الأول من هذا الفلم، وكان في المدرسة الثانوية الوحيدة في دمشق، «مكتب عنبر»، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما أبصرت أنور العطار أول مرة. أبصرت تلميذاً رقيق العود، دقيق الملامح، أنيق المظهر من غير أن يبدو عليه أثر الغنى، شارد النظرات، يمر في ظلال الجدران خفيف الوطء حالم الخطى، كأنه طيف يمرُّ على خيال نائم، يعتزل التلاميذ لا يكاد يثب وثبهم ولا يلعب لعبهم، فسألت عنه من يعرفه، فقال: هذا تلميذ شاعر اسمه أنور العطار. وما كنت أؤمن يومئذ بغير شعراء الجاهلية والشعراء الإسلاميين، ولا أرضى لنفسي أن أقرأ شعر المتنبي ولا يرضى ذلك لي مشايخي لئلا تفسد (قالوا) مَلَكتي، ولم أسمع -بعد- باسم شوقي ولا باسم المنفلوطي، فما أبهت لهذا الشاعر الذي اسمه أنور العطار ولا طلبت صحبته، ولا ظننت