دنيا الخيال إذ أعجزتنا دنيا الواقع أن نجد فيها ما نصبو إليه ونتمناه، لا نصدق متى ينقضي النهار وننجو من هذيان جماعة الرياضيات وطلاسم أصحاب الكيمياء حتى نفر إلى كتب الأدب، نقرأ كل بارع من القول ونتدارس كل رائع من البيان.
ورأيت أنور وقد بذَّ الأدباءَ جميعاً في «العلم ...» بالرياضيات، حتى لقد عرف قطر الدائرة وأضلاع المثلث، ولم يبقَ عليه ليبلغ نهاية العلم إلاّ أن يعرف القاسم المشترك الأعظم الذي لم يسمع به امرؤ القيس ... رأيته دائباً يكد ذهنه ويمسح عرقه، يحاول أن يفهم سر المعضلة الكبرى التي لا يُفهم لها سر، ويحل المشكلة التي لا يُعرف لها حل: الجذر التكعيبي. وأشهد أني جزت الأربعين من عمري، ورأيت أياماً سوداً ولقيت شدائد ثقالاً، وسلكت البوادي المقفرة، وركبت البحار الهائجة، وعلوت متون السحب، فما رأيت في البر ولا في البحر ولا في الجو شيئاً أشد ولا أصعب من هذا الجذر التكعيبي!
ورأيتنا وقد فرقت بيننا الأيام أمداً، فاشتغلت أنا بالصحافة وغامرت في السياسة، وآثر أنور التعليم، فكان مدير المدرسة الأولية في منين، في هذه القرية النائمة في حجر القلمون الأدنى، ترى مواكب الأحلام بأجمل «عين» وأشدها سحراً وأكثرها فتوناً: عين منين. مَن لم يرَ عين منين ما عرف سحر العيون، ولا رأى جمال الينابيع، ولا رشف خمر الجمال على مائدة الطبيعة ... فكنت أزوره (١) فأقضي ليلة أو ليلتين في جنة قد جمعت فيها النعم، أسكر
(١) انظر مقالة «إلى حلبون»، وقد مضت في هذا الكتاب (مجاهد).