أنا منفرد على سطح دار في «الزُّبَير»(١) في هذه الليلة الساكنة المتلألئة النجوم، وأمامي الصحراء التي تمتد إلى عُمان واليمن ونجد والحجاز، وورائي السواد الذي يصل إلى أرض فارس، وهي قريبة، حتى إني لأرى لهيب النفط المشتعل في عبادان وأنا في مكاني ... أتأمل هذه الصحراء المجيدة المباركة التي كُتب على رمالها أروع سطور المجد وأجمل صحائف التاريخ، ونبت في رمالها دَوح الحضارة الذي أوَت إليه الإنسانية وتفيأت ظلاله يوم لا ظلّ في الأرض إلاّ ظله. وأفكر فيطول بي التفكير، ويطل بي الفكر على آفاق واسعة ودنياوات عظيمة، وتنبلج في نفسي أصباح منيرة، فأجد في رأسي مئات من الأفكار الجديدة الكبيرة، وفي نفسي مئات من الصور الرائعة المبتكرة، ولكني لا أكاد أمسك واحدة منها لأقيدها بالألفاظ وأغلّها بالكَلِم حتى تفلت مني وتعدو في طريقها منحدرة إلى أغوار عقلي الباطن، فلا أنا استمتعت بها استمتاع الناس بأفكارهم ولا أنا سجلتها في مقالة وصنعت منها تحفة أدبية. ولو أني قدرت أن أكتب معشار ما أتصور لكنت شيئاً عظيماً، ولكني لا أقدر ... ولا أصب في مقالاتي إلاّ حثالة أفكاري!
(١) الزبير: بلدة صغيرة على سِيف البادية، غربي البصرة، تبعد عنها سبعة أميال، فيها قبر بطل الإسلام الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة. وعلى مقربة منها أطلال عليها نقوش ظاهرة، المشهور هنا أنها أطلال مسجد البصرة الجامع. وأهلها يبلغون اثني عشر ألفاً، كلهم مسلمون سنيون يميلون إلى السلفية ويحبون العلم، وفيها مساجد كثيرة كلها تقام فيه الجمعة، ومدرسة أميرية راقية، ومدرسة أهلية إسلامية أسسها الشيخ الشنقيطي رحمة الله عليه. والراجح أنها هي البصرة القديمة والله أعلم، فليس هنا من يعلم.