سلوا الفلاسفة إن كان عندهم علم، فما أنا بحمد الله من أهل الفلسفة!
* * *
سلوا الفلاسفة ودعوني أسترجع على باب هذه المدرسة أيامي التي ولّت. ولئن عاد أقوام إلى ماضيهم ليستريحوا إليه ويتسلوا بادِّكار أحداثه، فإنما أعود إلى الماضي لأحيا فيه، وأفرُّ إليه من حاضر أمقته وأجتويه. وأنا رجل كلما تقدمت به السنُّ ازداد إيغالاً في عزلته وهرباً من جماعته، فكأنه يقطع كل يوم خيطاً من هذا الحبل الذي يربط زورقه بآلاف الزوارق الصغيرة التي تمخر عباب الحياة مجتمعة، كما كانت تجتمع السفن إذ تجوز بحر الظلمات، فلا تخوض فيه ماء بل ناراً (١)، ناراً من تحتها لا تعلم متى تتفجر فتزلزل أرض البحر وتشعل جبال الموج، وأخرى من فوقها تحط عليها السماء رجوماً وتفتح عليها من جهنم أبواباً ... وإن عباب الحياة لأشد من ذلك شدة وأعظم هولاً.
حتى غدوتُ وقد رثَّ حبلي وتصرّم إلاّ خيوطاً؛ طائفة من الأصحاب لا يبلغون عد أصابع اليدين، وأماكن هي أقل من ذلك، لا ألقى سواهم ولا أرتاد غيرها. ولم يبق لي في لياليّ الطوال مؤنس أو سمير إلاّ هذه الكتب التي مللتها وملّتني وصارت مودّتها تكلفاً وحديثها مملولاً، وهذا الماضي أزدادُ كل يوم تعلقاً به وحنيناً إليه، أما المستقبل فأخافه ولا أجرؤ على التفكير فيه.
لذلك تراني إن لقيت رفيقاً من رفاق الصبا استوقفته وشممته
(١) أي أثناء الحرب العامة الثانية، وبحر الظلمات هو البحر الأطلسي.