للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ولا شرفة، فإذا دخلت رأيت الصحون الكبار والبِرَك والأنهار وغرائب الأشجار، وفي كل دار أسرة كاملة يجمعها الحب والإخلاص، وقد يختلف مَن فيها ويتنازعون، ولكنه اختلاف لا يمحو المحبة وتنازع لا يولد البغضاء، وإنما هو كاصطدام الغصن بالغصن في الروض الممرع من نسيم الأصيل.

يأكلون جميعاً من قدر واحدة على مائدة واحدة، فإذا كان العصر غُسلت أرض الصحن حتى صار رخامها وبلاطها كالمرايا، ورُشَّت الأشجار حتى قَطَرَ منها الماء، وزقزقت عليها العصافير التي تأوي إليها كل عشية، واصطفت الأسرة على الإيوان: الجد وأولاده وبناته وكناته وأحفاده، ونُصب (سماور) الشاي وأُديرت الكؤوس، وقفز الأولاد ولعبوا وتحدث الكبار وضحكوا، لا تصل إلى الجيران أصواتهم ولو صاحوا وغنوا ولا تصل إليهم أصوات الجيران، ولا يراهم أحد ولو تعروا ولا يرون أحداً، فهي مملكة مستقلة يحس ساكنها أنها له وحده، لا يؤذي جاراً ولا يؤذيه جار، وهي كثيرة الغرف متعددة الأجزاء، وهي لرجل الفكر نعمة يستطيع أن يجد فيها غرفة يقرأ فيها هادئاً ويكتب والضجة في الدار على أشدها فلا يسمعها، وهي عالم كثير المشاهد مختلف المناظر، إن مللت منه مكاناً قصدت غيره، فمن قعود في القاعة أو صعود إلى القصر (١) أو جلوس على بساط تحت الشجرة، أو عزلة في المشرقة (٢).


(١) القصر في عامية الشام: البهو الشتوي.
(٢) أي سطح الدار.

<<  <   >  >>