سن التقاعد (١) ... كأني أخذت على مَلَك الموت عهداً ألاّ يطرق بابي حتى أبلغ سن التقاعد، فها هو ذا قد جاء على غير ميعاد!
وكان أول ما خطر على بالي أني كنت أتمنى ميتة سهلة سريعة تكون على الإيمان، وأن هذه الأمنية تلازمني من أزمان، فخشيت أن أكون قد سعيت إلى هذه الميتة فأكون (والعياذ بالله) منتحراً. ورحت أفكر فيما صنعته من لَدُن دخلت الماء، فإذا أنا لا أذكر من ذلك شيئاً، وإذا أنا أشعر أنه غدا بعيداً عني كأنه قد كان من مئة سنة لا من دقائق معدودات، وصَغُرَت الدنيا في عيني كأني أراها من طيّارة قد علت في طِباق الجو. ومن كان على سفر يسرع ليلحق القطار، هل يرى من الشوارع التي يجتازها شيئاً؟ وهل يغريه منها جمال ساحر أو فن طريف؟ إنه يحسّ بها غريبة عنه وأنها ليست له، ويغدو منظرها في عينه كصورة زائغة، فكيف ينظر إلى هذه الدنيا من أيقن بالموت؟
لقد امّحَت (والله) صورة الدنيا كلها من أمامي. وما لي وللدنيا ولم يبقَ لي فيها إلاّ لحظات معدودات، أنا أتجرع فيها ثمالة كأس الآلام؟ لم يبق لي منها ما يغريني بها، حتى الأهل والولد شُغلت بنفسي عنهم؛ فلا تصدّقوا ما تقرؤونه في القصص من أن المشرف على الغرق يفكر في أحبائه أو في أعماله أو في أدبه وعلمه ومقالاته وأشعاره، أو يهمه ما يُقال فيه من بعده ... ربما
(١) أي سن المعاش في الاصطلاح المصري، و «التقاعد» أصح عربية وأقرب مدلولاً، وكذلك اصطلاحاتنا الشامية كلها ..