تمييز فيقال: ما ظهر فيه ملائمته للنفس فهو جِبِلَّة، وما ظهر منه موافقة للعادة بحيث يقدر الذِّهْنُ أن الناس لو كانوا لا يفعلون هذا ما فعله، أو لو كانوا يفعلون شيئًا آخر لفعله حكمنا بأنه عادة، وما ظهر فيه قصد التعبد بحيث لا يكون ملائمًا لمقتضى الجبِلَّة، ولا موافقًا للعادة فالظاهر أنه إنما فعله على سبيلِ التعبد، ولكن لو بقي الأَمر عليك مشكلاً فهل تقول الأصل أن ما فعله فهو عبادة أو تقول: الأصل المنع حتى يقوم دليل على قصد التعبد؛ لأن العبادة لا تشرع إلا بدليل واضح، فإن لم يكن هناك دليل واضح فالواجب ألا تقدم على التعبد بها لله تعالى، وهذا هو الأقرب.
وعُلم من قول المؤلف:(حتى يحصل البلاغ) أنه لو حصل البلاغ بغير الفعل لم
يكن الفعل واجبًا، لكن إذا قُدِّر أنه لا طريق لعلم الأمة بمشروعية هذا الفعل إلا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان فعلُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبًا؛ يعني يجب عليه أن يفعل من أجل إبلاغ الشرع.
بعد أن يحصل البلوغ ويعلم الناس به يكون مندوبًا في حقه وحقنا، وهذا هو أصح الأقوال، وهناك قول: أنه يجب علينا وعليه، وهناك قول: أنه يندب لنا وله، فالأقوال إذًا ثلاثة:
قول: إنه يجب علينا وعليه.
وقول آخر: يندب لنا وله.
وقول ثالث: وهو الصحيح يجب عليه ويندب لنا).
وقال في "الأصول"(ص/٥٧): (ما فعله تعبداً فواجب عليه حتى يحصل البلاغ لوجوب التبليغ عليه، ثم يكون مندوباً في حقه وحقنا على أصح الأقوال، وذلك لأن فعله تعبداً يدل على مشروعيته، والأصل عدم العقاب على الترك فيكون مشروعاً لا عقاب في تركه، وهذا حقيقة المندوب.
مثال ذلك: حديث عائشة أنها سئلت بأي شيء كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يبدأ إذا دخل بيته؟ قالت: (بالسواك)، فليس في السواك عند دخول البيت إلا مجرد الفعل،