للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ودَرْكِ العاجل، وإصابةِ حظوظِ الدنيا، ولا تغترَّ بظاهرِ ما ترى من تبسُّطهم في الأرض، وتصرُّفهم في البلاد يتكسبون ويتجرون وبتدهقنون. عن ابن عباس: هم أهل مكة، وقيل: هم اليهود. وروي أن أناسًا من المؤمنين كانوا يَرَوْن ما كانوا فيه من الخصبِ والرَّخاء ولين العَيش فيقولون: إن أعداءَ اللَّه فيما نرى من الخير، وقد هلَكنا من الجُوع والجَهد! فإن قلت: كيف جاز أن يغتر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بذلك حتى ينهى عن الاغترار به؟ قلت: فيه وجهان أحدهما: أن مِدرِة القوم ومتقدّمهم يخاطبُ بشيء، فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً، فكأنه قيل: لا يغرَّنكم. والثاني: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان غير مغرورٍ بحالهم فأكَّد عليه ما كانَ عليه وثُبِّتَ على التزامِه، كقوله: (وَلا تَكُوننْ ظَهِيراً الْكافِرِينَ) [القصص: ٨٦]، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: ١٤]، (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم: ٨]، وهذا في النهي نظير قولِه في الأمر (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: ٦]، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) [النساء: ١٣٦]، وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب، وهو في المعنى للمخاطب، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب؛ لأنّ التقلب لو غرّه لاغتر به، فمُنع السبب ليمتنع المسبب. وقرئ: لا يغرنك بالنون الخفيفة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويتدهقنون)، النهاية: الدهقان، بكسر الدال وضمها: رئيس القرية ومقدم أصحاب الزراعة، وهو معرب، ونونه أصلية لقولهم: تدهقن الرجل، وله دهقنة، وقيل: النون زائدة، وهو من الدهق: الامتلاء.

قوله: (من تنزيل السبب منزلة المسبب). السبب: تقلبهم في البلاد، والمسبب: التباس الغرور به، فنهي تقلبهم لينتفي غروره به، يعني: لا تغتر بسبب تقلبهم في البلاد وتمتعهم بالمال والمنال، فإن ذلك في وشك الزوال، يعني: لا تكن بحيث إن شاهدت ذلك وقعت في الغرور، وهو على منوال: لا أرينك ها هنا، فإن حصول المخاطب في ذلك في ذلك المكان سبب لرؤية المتكلم إياه فيه، فنهى نفسه عن رؤيته هناك لينتهي المخاطب عن حضوره فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>