قلتُ: فيه وَجْهانِ: أحدُهما أن يُعطَفَ على محذوفٍ، كأنه قيلَ: مِن نفْسٍ واحدةٍ أنشأَها أو ابتدَأَها، وخَلَقَ منها زوجَها، وإنما حُذِفَ؛ لدلالةِ المعنى عليه. والمعنى: شَعَّبَكم مِن نفْسٍ واحدةٍ هذه صِفتُها، وهي أنه أنشأَها مِن تُرابٍ وخَلَقَ زوجَها
وقلت - والله أعلم -: نبين أولاً مقصود المصنف على وجه يعلم منه أي الأقوال أولى بالقبول، أما الوجه الثانيـ وهو أن يكون (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) عطفاً على (خَلَقَكُمْ) ـ فمبني على قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: ٢١] لفظاً ومعنى، ويساعد عليه في هذا المقام قوله:(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)؛ لأن مثل هذه المخاطبات مختصة بالعرب.
وأما الوجه الأول فمبني على ترتيب الحكم على الوصف المناسب؛ لأنه يستدعي العموم في الناس، والشيوع فيه، وإضمار ما يفوق الحصر من ابتداء كونه تراباً إلى انتهاء تعلق الروح بالجسد؛ لأن الكلام سيق للتقوى، وللتنبيه على اقتدار عظيم وامتنان متبالغ، كأنه قيل: يا بني آدم اتقوا ربكم العظيم الشأن ذا القدرة الكاملة، والنعمة الشاملة، الذي ظهرت آثار قدرته، وتبينت سوابغ نعمته في إنشائكم من هذا المخلوق الفرد العجيب الشأن، الجامع لكمالات الدين والدنيا، وهذا مما لا يخفى عليكم، وظهر من هذا التقرير أن هذا الوجه أبسط وأبين للفوائد المتكاثرة إملاء، ويدخل فيه من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً؛ فهو بالتلقي والقبول أجدر، وعلم أن إرادة الإبهام والتفسير وكذا التقييد بالحال، لا يدخل في المقصود وإن صح من جهة الإعراب؛ لأنه إذا عطف بياناً لزم منه قصور البيان عن المبين؛ لأنه لا يعلم من قوله:(وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) بيان كيفية خلقة آدم المبهمة في قوله: (نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) كما بينه المصنف بقوله: "أنشأها من تراب" فضلاً عن تفصيله، فإذا جعل حالاً والمراد العموم كما قال صاحب "الفرائد"؛ دفعه قوله:(وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً).