فإن قلت: قد ذكر في "الأنعام" عند قوله: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ)[الأنعام: ٦]، أن كلتا العبارتين كناية، وخالف هاهنا. قلت: الخطاب في "الأنعام" مع أهل مكة، كما صرح به، وتضمين الكلام معنى الاعتبار بالأمم السالفة، فالمناسب سلوك طريق الكناية، ليكون أبلغ. يعني: أن أهل مكة لم يكونوا متمكنين في الأرض تمكنهم من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال، والاستظهار بالدنيا، وهاهنا الخطاب عام، والكلام متضمن للامتنان، لدلالة قوله:(ولَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ)[الأعراف: ١١]، فالمناسب الإجراء على الظاهر، لأن جميع بني آدم لم يكونوا متصرفين في الأرض، مملكين، وكذلك عطف قوله:(وجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) عليه، وأخر المصنف الكناية عن التصريح.
واعلم أن هذا نوع آخر من أنواع الإنذار. فإن قوله:(ولَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) جملة قسمية معطوفة على جملة قوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ)[الأعراف: ٣] على تقدير: قل اتبعوا، وقل: والله لقد مكناكم، ولهذا ذيله بقوله:(قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ)، كما ذيل ذلك بقوله:(قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)، فإن الشكر مناسب لتمكنهم في البلاد، والتصرف فيها، كما أن التذكر موافق للتمييز بين إتباع دين الحق ودين الباطل.