وقرئ:"براءة" بالنصب؛ على: اسمعوا براءة. وقرأ أهل نجران:"من الله" بكسر النون، والوجه الفتح مع لام التعريف لكثرته. والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وأنه منبوذ إليهم.
فإن قلت: لم علقت البراءة بالله ورسوله، والمعاهدة بالمسلمين؟ قلت: قد أذن الله في معاهدة المشركين أوّلاً، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما نجدّد من ذلك، فقيل لهم: اعلموا أنّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين.
قوله: ("من الله"، بكسر النون): قال ابن جني: "حكاها سيبويه، وهو أولى القياس، تكسرها لالتقاء الساكنين، غير أنه كثر استعمال "مِنْ" مع "لام" المعرفة، فهربوا من توالي الكسرتين إلى الفتح، وإذا كانوا قد قالوا: "قُم الليل" و"قل الحق"، ففتحوا، ولم يلق هناك كسرتان، فالفتح في (مِنْ اللَّهِ) لتوالي الكسرتين أولى".
قوله:(لم عُلقت البراءة بالله ورسوله، والمعاهدة بالمسلمين؟ ): يعني: كان المناسب أن تُنسب المعاهدة والبراءة كلاهما: إما إلى المؤمنين معاً، أو إلى ذاته عز وجل معاً، كما قال صاحب "التقريب"، وإنما علق البراءة بالله والرسول مع أن المعاهدة من المسلمين، وحق البراءة أن تُنسب إلى المعاهد؛ لأن الله تعالى أذن في المعاهدة، فكأنه عاهد وبرئ.
أجاب المصنف بأن ذلك إعلام بحسب الوقوع وترتيب الوجود، أذن الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أولاً بالمعاهدة، فعاهدوا، ثم لما نقض المشركون العهد جدد الله إعلاماً آخر، وقال لهم: اعلموا أن الله ورسوله برئ منهم، فتبرؤوا أنتم أيضاً.
ويمكن أن يُقال: إن المعاهدة لم تكن إلا بإذن الله تعالى وإباحته، فلما نبذ المشركون العهد نسب الله تعالى البراءة إلى نفسه، وضم معه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً عليهم وتهديداً شديداً فينطبق عليه قول المصنف أولاً:"أذن الله"، وثانياً:"أوجب الله النبذ".