قوله:(وصل بذلك بالفاء في قوله: (فَكُلُوا) صدهم عن أفعال الجاهلية ومذاهبهم الفاسدة)، بيان لربط الآيات من لدن مفتتح السورة، ولقد أسلفنا أن هذه السورة في بيان سوء أفعال قريش وقبائحهم، وفي تذكارهم ما خول الله لهم من أنواع النعم، وفي إنذارهم بنقم الله، وما حل بمن سبق من الأمم الخالية، ولما عدد عليهم النعم المتكاثرة من ذكر الأنعام وفوائدها وثمرات النخيل ومنافع ما يصل إليهم من النحل، وأنذرهم بأنواع من النذر، ثم نعى عليهم ما كانوا يفترون على الله من اتخاذ البنات، وقال:(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى)[النحل: ٦٢]، وأراد أن يذكر نوعاً آخر من أفعالهم، وهو تحليلهم بأهوائهم ما حرم الله من أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وتحريمهم ما أحله الله من البحائر والسوائب والوصائل والحام، وقولهم:(مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا)[الأنعام: ١٣٩]، عقب ذلك ضرب المثل بقوله:(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً) الآية، ليكون التخلص إلى قوله:(فَكُلُوا)، فردف بقوله:(وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ)، ويدل عليه تكرير قوله:(تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ).
فظهر من هذا التقرير أن المأمور به هو ما عدد الله من أول السورة من المأكول والمشروب. أما المأكول فمنها قوله:(وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ) إلى (وَمِنْهَا تَاكُلُونَ)[النحل: ٥] ومنها قوله: (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)[النحل: ١١]، ومنها قوله:(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَاكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً)[النحل: ١٤]، وأما المشروب فمنها قوله:(أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ)[النحل: ١٠]، ومنها قوله:(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ)[النحل: ٦٦]،