كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب: ٤٠] وما نحن بصدده من هذا القبيل.
فإن قلت: قول الإمام: "ويُقوي السؤال ما في آل عمران"، يوهم أن القرينة الأولى كافية في الجواب عن قوله:(لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً)، فكيف وقوعها في هذا المقام دون ذلك، والقصة واحدة؟
قلت: يجوز أن يكون ما في آل عمران بشارة أخرى من الملائكة بعد هذه البشارة من جبريل، بشرت أولاً بموهوب زكي ثم بموهوب موصوف بتلك الصفات الكوامل، فحقيقة البشارة في الكرة الثانية: جعلُ ذلك المهول نبياً ذا آيات بينات، كقوله تعالى:(وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ) لأن البشارة هي الإخبار بما يُظهر سرور المخبر، فالسرور الثاني غير الأول، وإنما لم يُردف القرينة الثانية بها في البشارة الثانية؛ لأنه لم يلحقها ما تستشعر معه الخوف على نفسها كما لحقها في المرة الأولى، ولذلك استعاذت فيها بقوله:(إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً).
وأيضاً، لا ارتياب أن سورة مريم مكية؛ لأنها تليت على النجاشي في أولى الهجرتين. وسورة آل عمران كما قيل: مدنية.
ويمكن أن يقال: إن كلتيهما قصة واحدة، إنما اختلفت العبارات لما أنه عز شأنه ذكر قصتها الواحدة في كل مكان بحسب ما يقتضيه المقام من الإطناب والإيجاز، فهذا المقام مقام بيان المقاولة التي جرت بينها وبين الملك، والحالات الواقعة بينهما، لا بيان وصف الغلام بتلك الأوصاف المذكورة في آل عمران، فأطنب في الأول واختصر في الثاني، بخلافه في "آل عمران"، لأنه مقامُ تقرير الامتنان على مريم بموهوب عظيم القدر بديع الشأن، فأطنب في الأوصاف، وأوجز في بيان المقاولة، وقد ذكرنا في سورة هود قانوناً يُرجع إليه