لو قيل كما قلت، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك، وكأنه قيل: تسعمئة وخمسين سنةً كاملةً وافية العدد، إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظًا وأملأ بالفائدة، وفيه نكتة أخرى: وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلى به نوح عليه السلام من أمّته وما كابده من طول المصابرة، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتًا له، فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه، أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره. فإن قلت: فلم جاء المميز أوّلًا بالسنة وثانيًا بالعام؟ قلت: لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم؛ من تفخيم، أو تهويل، أو تنويه، أو نحو ذلك. و (الطُّوفانُ) ما أطاف وأحاط بكثرةٍ وغلبة، من سيٍل أو ظلام ليٍل أو نحوهما. قال العجاج:
التوكيدَ في نُقصانها أَدخلْتَ الاستثناءَ تقول: جاءَني إخوتُكَ، يعني أن جميعَهم جاؤوكَ، وجائزٌ أن تعني أنَّ أَكثَرَهم جاءكَ، فإذا قلتَ: كلُّهم أكَّدتَ معنى الجماعةِ، وأَعلمتَ أنَّه لم يتخلَّفْ منهم أحدٌ، وإذا قلتَ: إلاّ زيدًا أكَّدتَ أنَّ الجماعةَ تَنقُصُ زيدًا، وكذلك رؤوسُ الأعدادِ مُشبَّهةً بالجماعة تَحتَمِلُ النُّقصانَ والتَّمامَ.
وعن بعضِهم: الصَّحيحُ أنَّ العددَ لا يَقبلُ الزِّيادةَ والنُّقصانَ، والمعدودُ يَقبَلُهما. قال تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}[البقرة: ١٩٧]، فإنَّه سَمّى بعضَ الشَّهرِ شهرًا خلافًا لمالكٍ، فإنَّ المعنى المُعَوَّلَ عليه أنَّ ما نَصَّ اللهُ مشتملٌ على الإيجابِ والنَّفْي، وما أورَدَه السائلُ إيجابٌ مَحْضٌ، والأوَّل أوكدُ.