عليه فيها ببعض ما وقع احترازه منه، فيرده بتلخيص أنه احترز من ذلك، ثم يعود إلى تقرير كلامه وتمشيته. فإن قلت: كيف نفى أن يرتاب في أنه من الله، وقد أثبت ما هو أطم من الريب، وهو قولهم:(افْتَراهُ)؟ قلت: معنى (لا رَيْبَ فِيهِ): أن لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله: لأن نافى الريب ومميطه معه لا ينفك عنه؛ وهو كونه معجزا للبشر، ومثله أبعد شيء من الريب.
((الصَّفوة)): النَّظَرُ أول الواجباتِ؛ لأنَّ سائرَ الواجباتِ الشرَّعيّةِ فرعٌ على معرفة الله بتوحيدِه وعَدْلِه، ومعرفتُه فرعٌ على النَّظَرِ، فكان النَّظرُ مقدَّمًا على الكلِّ.
فإن قيل: رَدُّ الوديعةِ، وقضاءُ الدَّين، وتَرْك الظُّلم، وشُكر نِعَم العبادِ: واجبةٌ عند كمال العَقْل، فلمْ يكنِ النَّظرُ أوَّلَ الواجبات؟
قلنا: نحن لا ندَّعي ذلك على الإطلاق، ولكنّا نقول: النَّظرُ أولُ الأفعالِ الواجبةِ المقصودةِ التي يَنفكُّ عنها كلُّ عاقلٍ، وبهذه القُيودِ اندفَعَ جميعُ النُّقوضِ لانتفائها.
وقلت: أمّا تنزيلُ الآيةِ على الكلام المصنّفِ فهو أن يُقالَ: أنَّ أصل المَسألةِ: الم ذلك الكتاب تنزيلٌ من ربِّ العالمينَ، والتعليل هو قوله:{لَا رَيْبَ فِيهِ}، وما دلَّ على الاعتراض قوله:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}؛ لأنَّ قولَهم هذا إنكارٌ لأنْ يكونَ من ربِّ العالمين، وقد احترز عن هذا الاعتراض في قوله:{لَا رَيْبَ فِيهِ}؛ لأنّه كلامٌ جامعٌ، ومعناه: أن هذا الكتاب لوُضوحِ دلالتِه وسُطوعِ بُرْهانِه ليس فيه مجالٌ للشُّبهة ولا مَدْخلٌ للرِّيبةِ.
قوله:{بَلْ هُوَ الْحَقُّ} ردٌّ للاعتراض، وإشارةٌ إلى أنَّ قولَه:{لَا رَيْبَ فِيهِ} قد احترز في من ذلك؛ لأنَّه متضمِّنٌ لمعنى أنه غيرُ مُفترًى، ثم عاد بقوله:{لِتُنذِرَ قَوْمًا} إلى تقرير الكلام السابقِ.
قوله:(لأنَّ نافيَ الرَّيبِ ومُميطَه معه لا ينفكُّ عنه)، ((معه)) خبرُ ((أنّ))، و ((لا يَنْفَكُّ)) إمّا خبرٌ بعدَ خبرٍ، وإمّا حالٌ مؤكّدّةٌ من المُستترِ في الخبر.