يكابرها، ويعرض فكره على عقله وذهنه، وما استقرّ عنده من عادات العقلاء، ومجارى أحوالهم. والذي أوجب تفرّقهم مثنى وفرادى أنّ الاجتماع مما يشوّش الخواطر، ويعمى البصائر، ويمنع من الروية، ويخلط القول؛ ومع ذلك يقل الإنصاف، ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب، ولا يسمع إلا نصرة المذهب. وأراهم بقوله:(ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أن هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة جميعًا، لا يتصدّى لا دعاء مثله إلا رجلان: إمّا مجنون لا يبالى باقتضاحه إذا طولب بالبرهان فعجز، بل لا يدرى ما الافتضاح وما رقبة العواقب. وإمّا عاقل راجح العقل، مرشح للنبوّة، مختار من أهل الدنيا، لا يدعيه إلا بعد صحته عنده بحجته وبرهانه، وإلا فما يجدى على العاقل دعوى شيء لا بينة له عليه، وقد علمتم أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم ما به من جنة، بل علمتموه أرجح قريش عقلًا، وأرزنهم حلمًا، وأثقبهم ذهنًا، وآصلهم رأيًا، وأصدقهم قولًا، وأنزههم نفسًا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحون به؛ فكان مظنة لأن تظنوا به الخير، وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب، وإذا فعلتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بأن يأتيكم بآية، فإذا أتى بها تبين أنه نذير مبين. فإن قلت:(ما بِصاحِبِكُمْ) ثم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يكون كلامًا مستأنفًا؛ تنبيهًا من الله عز وجل
قوله:(بل عَلِمْتمُوه أرجحَ قريشٍ عقلاً، وأرزنَهم حلمًا، وأثْقَبَهم ذهنًا، وآصلَهم رأيًا، وأصدَقَهم قولاً، وأنزهَهم نفسًا، وجمَعهم لما يُحمَدُ عليه الرجالُ ويُمْدَحون به)، هذه المعاني كلها تلوحُ من الأسلوب الاستدراجي والكلام المنصف وتخصيص ((صاحبكم)) واقترانِه بـ {جِنَّةٍ}، لله دَرّه ما أحسنَ بيانَه وما أعذبَ ألفاظَه وما أدقَّ مسالكَه، اللهمَّ أحسِنْ جَزاءه فيما يتعاطاه من هذا القبيل، وتجاوز عن فرَطاتِه من قَبيل التعصّب.
قوله:(وآصلهم رأيًا)، هو من قولهم: هو أصيل الرأي، وقد أصَلَ أصالةً.
قوله:(كلامًا مستأنفًا)، أي يكون {مِّن جِنَّةٍ} مبتدأ، والخبرُ {بِصَاحِبِكُم}، وزِيدَت